عواصف وأعاصير غير مسبوقة تهبّ على كيان الاتحاد الأوروبي، وتهدد بإغراقه في بحر الخلافات حول الهجرة التي يتدفق عبرها مئات الآلاف من المهاجرين نحو دوله.
هذه الأزمة هي الامتحان الأكبر للكيان منذ قيامه. لقد تغيرت الظروف التي وُلِد فيها هذا الكيان العملاق، واختلفت نوعية القادة المؤسسين عن هؤلاء الذين يتولون إدارة دوله اليوم.
الاتحاد الأوروبي، الجسم الاقتصادي الأكبر الذي وُلِد فوق دنيا القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية. لكن الأم الأوروبية حملت ذلك المولود العملاق في أحشائها سنوات طوالاً. لقد خرجت أوروبا من الحرب العالمية بجرح غائر في الضمير، وأثقال فوق كاهل وجودها. دماء الملايين وجثثهم تلاحق الأحياء، وتستدعي مشاهد المذابح والبؤس والعذاب. سارعت الولايات المتحدة بتقديم مساعدات مالية وغذائية سخية عبر مشروع مارشال، مع شروط سياسية أفضت إلى إقامة تحالف سياسي وعسكري في مواجهة الكيان الجديد الذي وُلِد من رحم تلك الحرب، وهو الكتلة الشيوعية التي سيطر فيها الاتحاد السوفياتي على شرق القارة.
عقب الحرب، برزت في غرب أوروبا أقلام وأصوات جديدة من بين المفكرين والأدباء والإعلاميين، يمكننا جمع أقوالهم تحت عنوان واحد وهو «الوحدة الأوروبية أو الحرب». بحكم الواقع، كانت الأفواه الأخرى التي لا تمتلك أصواتاً للتعبير، وليس لديها من الطعام ما تمتد إليه الأيدي، وهم يمثلون أغلبية شعوب غرب القارة، كانت تعيش حالة من الأمل الذي يطفو فوق جرح الماضي القريب.
الأحزاب التي تشكلت من قيادات لعبت دوراً في مقاومة النازية والفاشية، بطيفها اليساري واليميني، كان همها الإجابة عن سؤال كانت علامة الاستفهام التي تختمه: ما الطريق إلى الدنيا الجديدة بلا دم أو دموع وجوع؟ لم تكن الإجابة سياسية فقط، بل كانت فكرية وثقافية شارك فيها النخب والمثقفون العضويون، كما شخَّصهم المفكر اليساري الإيطالي غرامشي. في خضم إعادة بناء الدولة الوطنية بقيت أصداء ضحايا الحرب تقرع الضمائر والعقول، ودارت ماكينة الفكر السياسي والاقتصادي التي صنعت بوصلة المستقبل نحو أوروبا الاقتصادية.
الدول الصغيرة التي عبرها هتلر في زمن قياسي، وعانت المرارات من جحافله الضاربة متجهة نحو فرنسا، كانت الأولى التي تحركت نحو صيغة التعاون وتحقيق النموذج الأول للتكامل فيما عُرف بـ«دول البينيلوكس»، وهي: هولندا وبلجيكا ولكسمبورغ، وأسست الاتحاد الجمركي بينها.
المفارقة التاريخية أن الزعيم والسياسي البريطاني الأبرز ونستون تشرشل كان أول من أطلق تعبير «اتحاد الأمم الأوروبية» في بداية الحرب العالمية الثانية.
كان الهاجس الاقتصادي هو الأنفاس التي دفعت السياسيين إلى الخطوات الأولى نحو التقارب بتأسيس المجموعة الأوروبية للحديد والصلب في باريس سنة 1951. وبقي العامل الاقتصادي المطرقة أو لنقل: الريح التي تدفع سفينة أوروبا نحو تقارب متزايد، إلى أن وقعت في روما سنة 1957 معاهدة تأسيس السوق الأوروبية المشتركة. كانت تلك المعاهدة نقلة حقيقية في التاريخ الحديث، لقد أسست لمفهوم جديد وغير مسبوق في العلاقات الأوروبية، وأعطت للعالم منهجاً مبتكراً للقضاء على عقلية الهيمنة على الأمم الأخرى من طرف أمة واحدة عبر القوة العسكرية، وفرض السيطرة الآحادية على الآخرين. طويت صفحات نابليون بونابرت، وهتلر، وموسوليني، وكانت رسالة ساخنة إلى الاتحاد السوفياتي المهيمن على أوروبا الشرقية بعصا الآيديولوجيا والقوة العسكرية.
الهجرة غير الشرعية التي كانت وليدة أزمة دولية هزَّت دولاً في العالم العربي وأفريقيا، وكذلك آسيا. الحروب الأهلية التي مزقت النسيج الاجتماعي وكسرت المنظومات الإدارية والسياسية ودمرت قواعد القيم، دفعت الملايين من البشر إلى المغامرة بحياتهم عبر الصحارى والبحار نحو ما يعتقدون أنه دنيا الحرية والحياة والسلام (أوروبا) التي تلوح من خلف البحار، وقدم مئات الآلاف حياتهم موتاً بالعطش والجوع في الصحراء، أو غرباً بالجملة في البحار، من أجل الوصول إلى شواطئ الحلم الأسطوري.
لكن الكون الأوروبي الذي صنع صورة الحلم للهاربين من الموت والفقر والخوف انفجر بقوة في وجه مَن يقتحم أرضهم التي صنعوها عبر قرون من العرق والدم. كشفت الهجرة، خصوصاً الأفريقية، عبر ليبيا، عن الفجوات القيمية والسياسية داخل كيان الاتحاد الأوروبي. بعض الدول ومن بينها ألمانيا كانت أبوابها أكثر اتساعاً للقادمين، لكن ذلك لم يمنع من نشوب خلاف حاد بين الأحزاب المكونة لحكومة أنجيلا ميركل.
حزب الاتحاد المسيحي البافاري الألماني الشريك في الحكومة هدّد بالخروج من الائتلاف، ما لم تضع الحكومة حداً لدخول اللاجئين.
الأحزاب اليمينية في النمسا وبعض دول أوروبا الشرقية تعارض بشدة أي مرونة في التعامل مع الأزمة. إيطاليا بعد تولي الحزبين اليمينيين الشعبويين، رابطة الشمال وحزب الخمسة نجوم، في الانتخابات الأخيرة، صارت ليس مجرد الصوت الأعلى فحسب في رفض الهجرة، بل القوة المندفعة التي تقود الحرب ضد كيان الاتحاد الأوروبي بسبب الهجرة. قبل يوم واحد من القمة الأوروبية التي ستناقش هذا الموضوع، صرح وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني بأن الاتحاد الأوروبي يواجه مشكلة وجود، وقد يتفتت في غضون سنة واحدة، وأضاف: «في الشهور المقبلة، سوف يتقرر ما إذا كان لا يزال أمام أوروبا مستقبل بشكلها الحالي، أو أن الأمر برمته قد أصبح عقيماً، وفي غضون عام سوف نرى إذا كانت أوروبا المتحدة سوف تبقى أم لا. للمرة الأولى من ارتفاع بنيان هذا الكيان يصبح أمام سؤال البقاء أو الزوال. ورئيس الاتحاد الأوروبي (دونالد توسك) حذر قادة الاتحاد من أن أمامهم القليل من الوقت لإثبات قدرتهم على التعامل مع قضية المهاجرين، وإلا فإن الاتحاد سيخسر لصالح القوى الاستبدادية المعادية لأوروبا»، مضيفاً أن «المخاطر كبيرة جداً، والوقت قصير. واقترح أن يوافق القادة على نقاط ثلاث: إقامة منصات إنزال وتجميع للمهاجرين خارج أوروبا، وتوفير ميزانية خاصة لمكافحة الهجرة غير الشرعية، وتعزيز التعاون مع دول المنشأ والعبور.
الهجرة غير الشرعية التي هزَّت الكيان الأوروبي لم تكن سوى الحجر الذي وقع على جرح، بل جروح مسكوت عنها طوال سنوات. خروج بريطانيا من الاتحاد لا علاقة له بالهجرة، وشكوى بعض الدول مما يسمونه بـ«هيمنة بروكسل» (مقر المفوضية الأوروبية) المالية والتنظيمية أثير قبل أزمة الهجرة. والحركات السياسية اليمينية المتطرفة استخدمت الموضوع خطاباً انتخابيّاً تهييجيّاً. ولا نغفل هنا ما يحمله الاتحاد في داخله من اختلافات كبيرة في منظومات القيم السياسية والثقافية، فدول أوروبا الشرقية عاشت قروناً تحت حكم الحزب الواحد وسطوة الستار الحديدي الشيوعي، ودول أوروبا الغربية ذاتها لها موروث مختلف في التعرف والتعامل مع الآخر. بريطانيا البلد الجزيرة له تاريخه الإمبراطوري الذي وفد إليه الملايين من الآسيويين والأفارقة وكذلك فرنسا، في حين أن إيطاليا كانت مصدراً للمهاجرين، وكذلك إسبانيا والبرتغال.
نعم، هناك كثير من الأمور والسياسات التي تحتاج إلى مراجعة داخل الاتحاد. لقد تغيرت موازين القوى في العالم، ونشهد اليوم زعامات سياسية من نمط غير مسبوق، والعولمة حقيقة فاعلة في كل العالم. إذا تفتت أوروبا ستكون كلها أول الخاسرين ومعها أطراف كثيرة.