IMLebanon

هل يسقط لبنان القديم على مذبح الشرق الجديد؟

الصورة واضحة لدى رجال الاستخبارات الأقوياء، ذوي القرار: هناك دولٌ انتهت في الشرق الأوسط، وأخرى «على الطريق». وأما لبنان فهو «فاشل» و»يترنَّح». فهل سيواجه خطر الالتحاق بالدول المتلاشية في شرق أوسط يتلاشى؟

للمرة الثانية خلال 3 أشهر، كرَّر الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (2006- 2009) مايكل هايدن فكرته: الشرق الأوسط القديم انتهى.

وقال لـ«الفيغارو» قبل أيام: «دول عربية ستختفي، ومنها اثنتان ستختفيان عن خريطة الشرق الأوسط قريباً. فلنُواجه الحقيقة. لم يعد هناك وجود للعراق ولا لسوريا. وأما لبنان فهو يسير نحو الفشل». وأضاف: «باتت هناك مسميات عديدة: «داعش» و«القاعدة» والأكراد والسنّة والشيعة، تحت مسمى سابق هو سوريا والعراق». وحذّر من عدم استقرار في المنطقة يستمرّ سنوات.

وكان هايدن قال في شباط: «نرى انهياراً للاتفاقات التي تلت الحرب العالمية الثانية، وللحدود التي تمّ ترسيمها في فرساي وسايكس- بيكو. فسوريا والعراق لم يعودا موجودين ولن يعودا أبداً، ولبنان يترنّح، وليبيا ذهبت، والأوقات التي يجتازها الشرق الأوسط هي أوقات تكتونية»، حيث صفائح الأرض تتصادم لتنشأ عنها الزلازل.

قبل ذلك، في تشرين الأول 2015، قال الرئيس الحالي للـ CIA جون برينان: «يصعب تخيُّل سلطة مركزية تسيطر على هذه الدول داخل الحدود التي رُسِمت بعد الحرب العالمية الثانية».

ووافقه زميله الفرنسي برنار باجوليه بالقول: «إنّ دولاً كالعراق وسوريا لن تستعيد حدودها أبداً». فـ» النظام في سوريا يسيطر على ثلث البلاد، و«داعش» على المنطقة الوسطى، والأكراد يسيطرون شمالاً، والأمر عينه في العراق».

إذاً، سيرحل الرئيس باراك أوباما، حاملاً فشله السياسي في الشرق الأوسط. وفيما الذين راهنوا على مسار «التغيير الديموقراطي» في «الربيع العربي» كانوا واثقين من أنّ أوباما سيرعى رحيلَ الأسد عن السلطة وتركيب نظام جديد، فإنّ هؤلاء يكتشفون اليوم أنّ الأسد هو الذي سيودّع الرئيس الأميركي القديم، بعد ولايتين، ويستقبل الجديد.

فبقاءُ الأسد من ضرورات استمرار الحروب الأهلية في الشرق الأوسط. والحرب في سوريا مكتوبٌ لها أن تُنضِج التسويات المرسومة للمنطقة. وهذه التسويات لا تبدو قريبة، ولكن بدأ اليوم يظهر بعض ملامحها.

وفي تشرين الثاني المقبل، قد يتمّ انتخاب دونالد ترامب أو هيلاري كلينتون، ومع أيٍّ منهما قد يطرأ تعديل على نهج الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط. لكنّ ثوابت السياسة الأميركية مستمرة، ويعرفها ذوو المعلومات لا ذوو المواقف السياسية.

ويعلن هؤلاء بوضوح أنّ الشرق الأوسط يتغيَّر جذرياً. فـ»الربيع العربي» هو الماكينة التغييرية. وأما القوى الأهلية المتصارعة على رقعة كلّ كيانٍ شرق أوسطي فهي أدوات الصراع، والشعوب هي وقوده الضروري للاستمرار.

لقد وصل المتصارعون في سوريا والعراق إلى نقطة اللاعودة، ومن هنا، يبدو مهماً إدراك ما يجري اليوم على مستوى الحرب ضد «داعش». فالمعارك الحامية الدائرة في محيط حلب وشرقها، وفي الفلوجة، تؤشّر إلى أنّ المنطقة تدخل مرحلة جديدة، ومن مقتضياتها وضع ضوابط لـ«داعش» عشية البدء بأيّ حوار حول التسويات السياسية.

فعلى طاولة المفاوضات حول مستقبل سوريا أو العراق، لا يمكن أن تكون «داعش» طرفاً يصنع التسويات. والمطلوب ضربها اليوم وإضعافها للوصول إلى أحد خيارين:

1 – أن تتمكن القوى السنّية الأخرى في البلدين من تكريس صفتها التمثيلية كممثل للسنّة على الطاولة، وليس «داعش».

2 – أن تنشأ قوى جديدة من داخل «داعش»، بعد تفكّكها، وتكون أكثر اعتدالاً وقدرة على محاورة الغرب، وتصلح لتكون جزءاً من الحل.

ولكن، على الأرجح، ليس في برنامج الضربات التي تتعرض لها «داعش» حالياً أن يتمّ القضاء عليها. فالمعطيات التي استدعت خلقَ هذا التنظيم، في شكل سريع ومفاجئ، هي وحدها التي يمكن أن تقود إلى تحطيمه سريعاً عندما تزول المبرّرات. ولا يبدو أنّ الوقت قد حان لذلك.

يقول يعض المتابعين: تنتهي الحرب في سوريا والعراق عندما تنتهي الحرب على «داعش». وتنتهي الحرب على «داعش» عندما تنتهي «داعش» نفسها.

فوجود هذا التنظيم أدى وظيفة فورية في سوريا، وهي انقسام السنّة فريقين يستقلّ كلّ منهما بمنطقته ويقاتل الفريق الآخر. وهذا الانقسام أضعف القوى التي تقاتل الأسد، ونجح في «شيطنة» الحالة السنّية بتكريس صورة قسم كبير من السنّة كمتشدّدين.

ولطالما استفاد نظام الأسد، منذ عشرات السنين، من عنوان التصدي للإرهاب ليبرم مع الغرب اتفاقات تكرّس استمرار إمساكه بسوريا. وهنا، يجدر التوقف بدقّة عند الغموض الذي يكتنف طبيعة «داعش» وتحالفاتها.

إذاً، الحرب في الشرق الأوسط مستمرة باستمرار «داعش» والحرب عليها. لكنها ربما تدخل مرحلة جديدة.

والدينامية التي يريد الإسرائيليون إطلاقها على المسار الفلسطيني، بالتفاهم مع واشنطن وموسكو، وفيما العرب منشغلون بأزماتهم، مؤشر إلى أنّ هناك تحضيراً لمرحلة جديدة تريد إسرائيل الإفادة منها لتحقيق المكاسب.

في خضم كلّ ذلك، يبقى السؤال عن لبنان «الفاشل» و«المترنّح» كما قال هايدن. فهل هو في طريقه إلى تكريس الفشل والتفكّك واللحاق بمسار سوريا والعراق وسواهما أم يسلك اتجاهاً معاكساً؟

هناك مؤشرات متزايدة تثير المخاوف على لبنان:

1 – تحوُّل النازحين في لبنان، الواقف على أرجوحة ديموغرافية، إلى ما يزيد عن نصف عدد سكانه، من دون أيّ أفق للمعالجة.

2 – فشل نظامه الحالي في تسيير الدولة أو إنتاج تسوية وطنية حقيقية، وتفاقم الأزمات الدستورية والسياسية إلى حدّ الشلل شبه التام.

3 – انخراط فئات لبنانية بالصراعات الإقليمية بحيث يكون انتصار بعضها أو هزيمته إقليمياً بمثابة انتصار أو هزيمة لها في الداخل. وهذا ما يثير المخاوف الدائمة من صدامات ذات طابع مذهبي.

4 – أدت حال الضعف التي تصيب قوى دولية وإقليمية راعية للبنان تقليدياً إلى أن تسحب يدها منه وتتخلّى عن دورها في رعاية التسويات، كما في الطائف أو الدوحة. ولذلك يحذّر الرئيس نبيه بري من الاستمرار في المراهنة على حلول خارجية.

5 – ارتفاع مستوى النقمة على الطبقة السياسية عموماً. وهذا ما عبّرت عنه الانتخابات البلدية الأخيرة بوضوح، بعد جولات من الحراك المدني في الشارع.

6 – الصدمات التي قد يتعرض لها لبنان على المستويات المالية والمصرفية، في موازاة استمرار المأزق على مستوى المديونية العامة وتفشي الفساد والسرقة والهدر في المؤسسات من دون رقابة أو محاسبة قانونية.

ولكن، في مقابل كلّ هذه التشققات الخطرة، ثمّة مَن يطمئن إلى أنّ لبنان ممسوك، وأنّ كلّ شيء فيه مضبوط، ولا خوف من لبنان أو عليه، ولو لم يكن الأمر كذلك لسقط لبنان سياسياً وأمنياً ومالياً منذ زمن.

هذا التطمين فيه الكثير من المنطق ولكنه خَطِر أيضاً. فالقوى التي «توقِفُ لبنان على رِجلَيه» هل تحلّ له أزمات النازحين والفشل الطائفي والمذهبي والدستوري والسياسي والمالي وتعزله عن حروب المنطقة؟

وهل تقتضي مصلحة هذه القوى، في لحظة معيّنة، أن تترك لبنان ليدخل في المسار الذي يسلكه الشرق الأوسط بكامله؟ أو يتمّ الضغط عليها لتتخلّى عن لبنان وتتركه لقمة سائغة يراد تنفيذ المشاريع المشبوهة من خلاله، على مذبح الشرق الأوسط الموعود؟

الأفضل أن يحتاط اللبنانيون لهذا الاحتمال لأنه وارد… وبقوة! فماذا عن فكرة المؤتمر التأسيسي؟