كان ينقص هذا الوطن الصغير المتميز بجمال طبيعته وبراعة أبنائه وبناته في أداء أصعب المهام وأدقها، وفي التحايل على الظروف الصعبة التي يعيشون في ظلها، أن يلجأ بعض سياسييه الى النفخ في رماد الطائفية كاستثمار مجز، لطالما اصطنع زعامات وقيادات فئوية على حساب وحدة الشعب ومصالحه… العليا.
فجأة ومن دون سابق إنذار، اكتشف بعض السياسيين بالنسب ـ كاستباق للوراثة ـ أن النظام الطوائفي القائم في البلاد والذي يطبق على صدور اللبنانيين فيلغي الكفاءة والأهلية، ليس طائفياً بالقدر الكافي، فقرروا ضخ الروح في «النظام القديم» الذي كان يقوم على «طائفة عظمى» يمنعها كرم أخلاقها من التفرد بالسلطة فتأتي ببعض أبناء الطوائف الأخرى (الملحقة) ليكونوا «شركاء مع وقف التنفيذ»… يظهرون في الصورة ويختفون عند القرار.
ولقد كلف التخفيف من طائفية النظام، لا إلغاؤها، أزمات حادة تفجرت في حالات معينة عصياناً أو استنكافاً، ثم ما لبثت أن تحولت إلى حرب أهلية، كان طبيعياً في بلد رقيق الحاشية متعددة أطياف شعبه وميولهم، ومفتوح على محيطه بداعي الأخوة، وعلى العالم بداعي «غربية الثقافة»، أن ينخرط فيها «العالم» بشرقه وغربه والبين بين..
وكان ما كان من أمر الطائف واتفاقه الذي شارك في إعداده ثم في إقراره ورعاية تنفيذه العالم بدوله جميعاً، من تعتمد منها العلمانية في نظامها ومن تجعل السيف حارساً «لا إله إلا الله ـ محمد رسول الله» في قلب علمها، ومن كان لها السبق في «حماية الأقليات» أيام السلطنة، ثم في ابتداع النظام الطائفي أيام الانتداب الفرنسي، وكل ذلك تحت رعاية الإمبراطورية العلمانية الكونية القائمة بعاصمتها واشنطن..
ولقد شهدت هذه الحقبة من عمر اتفاق الطائف أزمات سياسية عديدة كانت تتحول عشية كل انتخابات رئاسية إلى ما يشبه «الأزمة المصيرية». ثم يأتي الموفدون الدوليون ليشاركوا مع سوريا (والسعودية) في طمأنة «الخائفين على الرئاسة» و «الخائفين من الرئاسة» إلى أن دول العالم أجمع تضمن «النظام» برموزه وأخطرها: طائفة منصب الرئيس، التي لم تكن مطروحة داخلياً في أي يوم، ومعها كذلك توزيع المقاعد في المجلس النيابي وفي مجلس الوزراء وفي المواقع القيادية في إدارات الدولة (ضمن صيغة التوافق الوطني، وبغض النظر عن «التوازن» إذا ما قيس بأعداد اللبنانيين بحسب طوائفهم والمذاهب).
وها نحن في السابعة والعشرين لحكم اتفاق الطائف ومع كل انتخابات رئاسية يتجدد اللعب بالتوازنات والتفاهمات والمواثيق، لأن «الموسم» يوفر الفرصة للمزايدات والمناقصات وتجديد النفخ في «مظلمة المسيحيين» المهدد وجودهم في هذا الشرق!
مؤخراً، ومن دون سابق إنذار، ومع عجز المجلس النيابي عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية (وهو عجز مقصود ومخطط له) عادت نغمة الطعن بالنظام القائم الى الارتفاع بذريعة أن «الميثاقية» فيه مختلة… لكن هذا الاختلال لم يمنع انعقاد المجلس للانتخاب وتعطيل الاقتراع بفعل فاعل هو الذي يرفع صوته الآن شاكياً من غياب الميثاقية.
أبسط سؤال يطرح: لو أن المجلس النيابي (ذاته) كان قد انتخب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية فهل كان ذلك سيحقق الميثاقية التي تبدى النقص فيها مع العجز عن تحقيق حلم العماد (وهذا حقه) في أن يكون رئيساً؟!
هل الميثاقية تتأكد بالشخص أم بالنظام الذي لم يناقش أحد في لبنان أو خارجه، في أن يكون رئيس الجمهورية فيه مارونيا؟!
وهل اكتشاف الخلل في ميثاقية الحكم قد تم بالأمس، فقط، فصعق الوزير الدائم لهذا الخلل الفاضح في النظام واندفع بهدم قاعة الحوار الوطني (وهي تجمع ممثلي الأطراف جميعا، ومن الطوائف جميعا) على رؤوس المجتمعين المتنكرين للميثاقية؟!
هل انتبه الوزير الدائم إلى الحرائق التي تكاد تلتهم «الدول» من حولنا، وتسري نارها في هشيم المنطقة فتدمر حاضرها وتهدد وجودها ذاته، لا مستقبلها فحسب… وهي حرائق بين عوامل اشتعالها خلل طوائفي لا يشكو منه لبنان، بل إن بعض نخبها تطالب باعتماد النظام اللبناني مثالاً يقتدى به… برغم أن كثرة من اللبنانيين يرون فيه إلغاء لمواطنيتهم وحقوقهم في بلادهم؟!
أكلما عزّت رئاسة الدولة على مرشح يُفرض على البلاد أن تدفع من استقرارها الهش (نتيجة عوامل متعددة يختلط فيها الداخلي والخارجي) ثمناً لهذا الطموح؟!
ارحموا لبنان أيها المتاجرون بالطائفية… وقديما قيل: «عند اختلاف الدول احفظ رأسك».. فكيف عند انهيار الدول وتمزقها أمام عيوننا كما يجري حالياً؟!