بات واضحاً للجميع أن لبنان لن يستقرّ سياسياً وأمنياً واقتصادياً في ظل أي رئيس ما لم يتفق كل القادة فيه على أن يكون له أولاً وأخيراً ومن دون سواه ليصبح العيش المشترك فيه دائماً وثابتاً والسلم الأهلي راسخاً لا تزعزعه الأزمات بكل أشكالها. أما إذا ظل البعض يستقوي بخارج على شريكه في الداخل ليصبح هو الغالب وسواه مغلوبا فلن يكون في لبنان استقرار دائم وثابت ولن يكون لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه.
لقد تعلّمت الطوائف المسيحية من تجاربها أن من يستقوي بخارج على شريكه في الداخل ليتغلب عليه، لا بد من أن يأتي يوم يستقوي هذا الشريك بخارج أيضاً ليتغلب عليه. لذلك فليس سوى الوحدة الوطنية والعيش المشترك في ظل دولة قادرة وعادلة، دولة الحق، ما يحصّن هذا العيش ويحميه. وهذا ما جعل الطائفة الاسلامية السنية تعلن إيمانها بلبنان أولاً عندما جربت الاستعانة بخارج، ولا سيما بالقريب منها، وكيف تعامل معها بفوقية مذلة وهو ما زادها حباً بلبنان وتمسكاً بالعيش المشترك. وها ان الطائفة الاسلامية الشيعية تجرب ما سبق لغيرها ان جربه وهو الاستعانة بخارج لتتأكد ان النتيجة واحدة.
لا بدّ إذاً من أن تقتنع كل الطوائف والمذاهب بأن يكون ولاؤها للبنان من دون سواه، وان لا تميز في العلاقات مع اي دولة قريبة أو بعيدة إلا بما يخدم مصلحة لبنان ويعزز وحدته وأمنه واستقراره، وانه لا يمكن رؤية هذا اللبنان الا بعد أن يعود “حزب الله” من سوريا إلى لبنان ويعود إلى لبنانيته وينضم إلى القائلين بـ”لبنان أولاً وأخيراً” لأن ما من خارج إلا ويعمل لمصلحته أولاً موهماً من يعتمد عليه انه يعمل لمصلحته ويجعله يستقوي به على شريكه في الداخل، حتى إذا انهارت الوحدة الداخلية الوطنية وزال العيش المشترك وسقط السلم الاهلي ينتهي الوطن ويصبح أوطاناً والشعب فيه شعوباً. فلو ان “حزب الله” التزم مع كل الاحزاب والمكونات في لبنان سياسة “النأي بالنفس” لما كان لبنان يعاني ما يعانيه اليوم لأن من يقوم بفعل ضد آخر عليه أن ينتظر رد فعله عليه.
لذلك لا أمل في جعل لبنان سيداً حراً مستقلاً ومستقراً سياسياً وأمنياً واقتصادياً إلا باتفاق كل القادة فيه على عدم التدخل في شؤون الآخرين كي لا يتدخلوا هم في شؤونه، وان يعتمدوا سياسة الحياد عند الخلاف في كل محفل ومؤتمر. فما دام “حزب الله” يقاتل في سوريا فلن يكون في استطاعة لبنان استعادة الأمن والاستقرار لأنه يكون قد جعل نفسه طرفاً في ما يجري، ليس في سوريا فقط إنما في المنطقة كلها، ولا بد للبنان من أن ينتظر ما سوف تستقر عليه الأزمات والحروب فيها ليعرف مكانه وموقعه في التسوية أو الصفقة الكبرى. فالمطلوب إذاً، ومنذ الآن، ان يتفق القادة على أي لبنان يريدون كي لا يفرض عليهم ما لا يريدونه وهم منقسمون ومتفرقون ولا موقف واحداً موحداً لهم. ولن يكون في استطاعة اي رئيس للجمهورية أن يفعل شيئاً في ظل الوضع الراهن سوى أن يملك ولا يحكم، وما لم يبدأ تطبيق نظام اللامركزية الذي يجعل لبنان يرتاح ويريح. ذلك ان اللامركزية تمهد للحياد وتنهي الصراع على السلطة المركزية وتلغي الطائفية في النفوس كي يصير في الإمكان الغاؤها من النصوص، وعندئذ تصبح المناصب العليا في الدولة مفتوحة أمام أصحاب الكفايات إلى اي فئة أو مذهب انتموا، لأن الحياد عندما يحصن كيان لبنان ولا تظل التدخلات الخارجية والانقسامات الداخلية تعرضه لخطر الزوال والذوبان، فلا يعود لدى اي مكون من مكونات لبنان السياسية والمذهبية خوف عليه بل تصبح كل الأحزاب والطوائف من حزب لبنان، أو أحزاباً للدولة لا أن يكون لكل حزب دولة.
فهل يكون ثمن القبول بسليمان فرنجيه أو بغيره الالتزام بإقامة جمهوريّة لها جمهورها، وبدولة لها هيبتها، ولا دولة سواها ولا سلاح غير سلاحها؟ وعندها تنتقل الانتخابات الرئاسية من معركة بين أشخاص الى معركة على مبادئ وليس على اقتسام منافع شخصية، فمن يلتزم تنفيذها يكون رئيساً، سواء كان من 8 أو 14 آذار أو كان من خارجهما لأن الانتخاب يكون للمبادئ وليس للأشخاص.