منتصف آب (أغسطس) الماضي، دعي جيرمي كوربن، رئيس «حزب العمال» البريطاني، إلى دائرة المراقبة لدى مجلس العموم بغرض الاستفسار عن أهداف الزيارة التي قام بها إلى الشرق الأوسط.
ولما قدم كوربن جوابه بطريقة مبهمة، أبرز له رئيس المراقبة نسخة من صحيفة «ذي تايمز» تظهره مع خالد أبو عرفة ومحمد طوطح من إسلاميي «حماس».
والثابت أن أحد المرافقين التقط صورة لكوربن أثناء الزيارة التي قام بها عام 2010 لكل من الضفة الغربية وإسرائيل. وبما أنه لم يصرح عن القيمة التي دفعتها عنه مجموعة «ميدل إيست مونيتور»، اعتبر «حزب المحافظين» أن كوربن قد تجاوز حدود القانون الذي يسمح للنائب بقبول منحة لا تتجاوز قيمتها 660 جنيهاً إسترلينياً فقط. إضافة إلى هذه القيود المادية، فإن النائب ملزم بالإعلان عن الغاية من الزيارة بطريقة صريحة وشفافة.
يومذاك، أعلن كوربن أن هدفه من الزيارة المساهمة في تحقيق سلام الشرق الأوسط. وانتقد هذا التبرير النائب أندرو بيرسي، نائب رئيس الحملة المعادية «للاساميّة». وحجته أن زعيم «حزب العمال» اجتمع بقياديين من «حماس»، المنظمة التي تحارب إسرائيل، وتمنع المنظمات المعتدلة من عقد اتفاق سلام معها.
وذكر بيرسي أيضاً أن كوربن سافر في السابق إلى تونس مرتين للمشاركة في احتفالات تكريم الشهداء. والدليل على ذلك أن صورته ظهرت في الصحف التونسية وهو يضع اكليلاً من الزهر على ضريح أحد الشهداء الفلسطينيين.
وعندما بلغت الحملة ضد كوربن هذا المستوى من الحدّة، تدخل الدكتور مانويل حسسيان، رئيس بعثة فلسطين في بريطانيا، ليدافع عن رئيس «حزب العمال» ويقول أن معارضيه يستغلون مواقفه الإنسانية بغرض طمس كل انتقاداته السياسية لإسرائيل.
وقال حسسيان في هجومه على مفتعلي مجازر غزة، أن كوربن كان شاهداً على الحرب العنصرية التي شنتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. ثم قدم أمثلة عدة على تصرف البيض في دولة جنوب أفريقيا قبل الاستقلال، وأكد أن نظام «الأبرتايد» ما زال مطبقاً في الدولة اليهودية منذ عام 1948.
والمؤسف أن المناكفات الشخصية من المحيطين بالرئيس محمود عباس قد أبعدت أحد أهم السفراء العرب نشاطاً – أي حسسيان – إلى بودابست بعد سلسلة طويلة من النجاحات التي حققها في بريطانيا.
طوال هذه المعمعة الحزبية في بريطانيا، لم يسلم عمدة لندن الباكستاني الأصول صادق خان من الانتقاد المرير. فقد كتبت الصحف المؤيدة لإسرائيل افتتاحيات تحثه فيها على ضرورة التدخل مع كوربن بغرض تنظيف أفكاره من انحرافات اللاساميّة. وكررت صحف الجالية اليهودية من لندن التذكير بأن رئيس «حزب العمال» في مطلع شبابه اشترك في وضع إكليل من الزهر على ضريح فلسطيني في تونس كان متهماً بالتعاطف مع الفدائيين الذي نفذوا عام 1972 الهجوم على الفريق الإسرائيلي، وذلك أثناء دورة الألعاب الاولمبية. وقد وجهت أصابع الاتهام حينذاك إلى قائد الفرقة المنفذة علي حسن سلامة الذي اغتالته إسرائيل في بيروت. واليوم، بعد مرور 46 سنة على تلك الحادثة، تطلب الجالية اليهودية في بريطانيا من عمدة لندن صادق خان اتخاذ إجراءات قاسية بحق كوربن. والسبب أنه مسلم، وأن اعتراضه على سلوك كوربن يكون أكثر تأثيراً وأعمق أثراً. إضافة إلى ملفات الانتقاد التي تجمعها الجالية اليهودية البريطانية عن كوربن، فقد دعمت حججها بما ذكرته صحيفة «الصن» عن لقائه مع خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة «حماس».
هذه الخلفية لرجل يسار متطرف وضع في «المانيفستو» سلسلة أهداف سياسية ومشروعات اقتصادية يمكن أن تعرقل وصوله إلى رئاسة الحكومة، خصوصاً أن القصر الملكي يسعى جاهداً إلى ضرورة استبداله بشخص آخر أقل عنفاً وتطرفاً.
يقول جيرمي كوربن أنه حارب طوال حياته من أجل القيم التي آمن بها. وتعترف الصحف المحلية بشجاعته وصلابة مواقفه، بحيث إنه صوّت في البرلمان 553 مرة ضد مواقف حزبه. كما صوّت ضد الحرب في العراق، والسلاح النووي، والسيطرة البريطانية على شمال إرلندا.
كذلك، اكتسبت شهرته بعداً عالمياً يوم انخرط في «أمنستي» لمحاربة حكم أوغستو بينوشيه. كما تعرض للاعتقال عندما تظاهر ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
قبل مدة وجيزة نشر كوربن في جريدة «الغارديان» مقالة قال فيها «إنه لا مكان للساميّين في حزب العمال»، ولكنه استطرد معتذراً ليؤكد أن إسرائيل هي التي تحرّض الناس على سلوك هذا المنحى. والسبب أنها تسنّ قانون «الأبرتايد» وتطبقه داخل قطاع غزة حيث قتلت 160 متظاهراً غير مسلح. كما شرّعت قانوناً يجعل من إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي. وهذا يعني أن ما تقوم به إسرائيل يمثل كل الشعب اليهودي. كما يعني أنه عندما يطلق النار قنّاص إسرائيلي على فلسطيني معوق على كرسي متحرك ويقتله، فإن الشعب اليهودي يكون شريكاً في عملية القتل.
هيو ماير يُعتَبَر من أنشط المطالبين بحقوق الإنسان، وله عبارات مشهورة، أهمها: ذات يوم اللاساميّ كان الشخص الذي يكره اليهود… واليوم أصبح اللاساميّ هو الشخص الذي يكرهه اليهود!
والمعنى المستتر في هذه العبارة يؤكد استغلال إسرائيل اللاساميّة، بحيث إنها تلصق هذه التهمة بكل شخص أو مؤسسة أو دولة تعارضها أو تنتقد أعمالها.
والمؤسف أن الدول الغربية سارت على منوال إسرائيل من دون تحفظ. والمثال على ذلك أن الشخص الذي يشك في أن الهولوكست حصد ستة ملايين يهودياً يُحال إلى المحاكمة. في حين يستطيع أي فرد إنكار وجود الله من دون أن يلقى الاعتراض بحجة أن هذا معتقده الشخصي!
هذا الأسبوع، دخلت العلاقات الأميركية – الإسرائيلية في أزمة بسبب إطلاق نار على كنيس وقتل أحد عشر مصلياً يهودياً. وعلى الفور صدرت معلومات رسمية عن الفاعل روبرت باورز تؤكد أنه ملاحق بتهم ومخالفات يزيد عددها على 29 تهمة. وقد شككت صحف عدة في صحة هذه المعلومات على اعتبار أن المواقع اليهودية في الولايات المتحدة محاطة بعناية الدولة ورعايتها الدائمة. لهذا السبب وسواه هرب عدد كبير من يهود أوروبا إلى أميركا طلباً للحماية. ظهرت اللاساميّة الحديثة، كما يقول الكاتب إسرائيل شاحاك، في فرنسا وألمانيا، ثم في روسيا بعد عام 1870. وهو يرى أن ظهور اللاساميّة الحديثة الأولى (ما بين 1880 و1900) كان رد فعل أناس يكنون كرهاً عميقاً للمجتمع الحديث بمختلف مظاهره. ولقد برز في تلك الحقبة مؤلف كتاب «يهود فرنسا» درومونت الذي اعتبره المؤرخون أول «لاساميّ شعبي» وصلت شهرته إلى ألمانيا وبلجيكا. ولم يوفر هذا الكتاب النبلاء الكبار الذين توددوا إلى آل روتشيلد، بمن في ذلك العائلة المالكة الفرنسية. ويُقال أن لاساميّة درومونت استغلت في قضية الضابط دريفوس بهدف إسقاط النظام.
وبما أن التقليد المسيحي القديم كان معارضاً لليهود في غالبية الدول الأوروبية، لذلك وجدت اللاساميّة فرصة للنمو والتمدد. وكان ذلك الميل، في رعاية الكنيسة الكاثوليكية، قوياً ومنتشراً في فرنسا وإيطاليا. أما الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية فقد أيدت اللاساميّة في رومانيا ولاتفيا وإستونيا. والملفت أن هولندا وسويسرا وإسكندنافيا كانت من أوائل الذين دانوا اللاساميّة.
يُعرِّف الكتاب «اللاساميّة» بأنها تعبير عن التخوف من الأجانب والرغبة في بقاء المجتمع نقياً ومتجانساً. وصدف أن اليهودي الرافض الانصهار الاجتماعي كان يمثل الغريب الوحيد في أوروبا.
يعترف المؤرخون بأن معارضي اللاساميّة في أوروبا كانوا ينتمون إلى تيارات اشتراكية أو ليبرالية. وهذا ما أظهرته حرب الاستقلال الهولندية، والثورتان الفرنسية والإنكليزية.
بعض الخبراء في تاريخ الحركة الصهيونية يزعم أن «اللاساميّة» أفادت الصهيونية التي وُلِدت من رحمها. وهم يزعمون أن اضطهاد اليهود في أوروبا – وحتى قبل النازية – شجع قادتهم على نقل اليهود إلى أوغندا أو فلسطين. وهذا ما لمّح إليه المؤرخ البريطاني توينبي الذي كتب أن الفلسطينيين دفعوا ثمن كراهية الألمان لليهود.
الواضح من التدقيق في الدوافع الحقيقية للصهيونية أن أبرز قادتها كانوا يميلون إلى استغلال «اللاساميّة» لخدمة أغراضهم السياسية. وهناك أمثلة كثيرة تدعم هذا المنحى. ذلك أن صاحب فكرة الوطن اليهودي هيرتزل كان أقرب صديق للكونت فون بليهفي، الوزير «اللاساميّ» في حكومة القيصر نيقولا الثاني… والمتعصب جابوتنسكي عقد ميثاقاً مع القائد الأوكراني «بتليورا» الذي نفذ مذابح قتل فيها مئة ألف يهودي عام 1918. وحلفاء ديفيد بن غوريون ضمن اليمين الفرنسي المتطرف إبان الحرب الجزائرية، كان بينهم «لاساميّون» مشهورون، حرصوا على إيضاح أنهم ضد اليهود في فرنسا… لا في إسرائيل!
بقي أن نسأل عن اليهود الذين يقفون وراء روبرت باورز، وما إذا كان ضحايا الكنيس الذين قتلهم سيرغمون الرئيس دونالد ترامب على التراجع عن تحقيق «صفقة العصر»!