أطاح الارهاب بـما سُمي «الربيع العربي» وحوله إلى «شتاء إقليمي». فلم تعد المسألة مسألة ثورات شعبية تنشد التغيير الديمقراطي والمستقبل الأفضل، وانما مسألة تنظيمات ارهابية تسلّلت عبر هذه الثورات ونفذت منها لتعبث في الأرض اجراماً ودماء ودموع، وتردّ العالم العربي والإسلامي قروناً إلى الوراء وتفرض اجندتها وسلوكياتها بقوة السلاح والعنف والترهيب والترويع، وتفرغ الثورات العربية من كل مضمون ومن كل معنى.
الارهاب في كل مكان من العالم اثبت قدرة هائلة على التفشّي في الجسم العربي المريض ومن ثم على التوسّع والتمدّد في كل الاتجاهات. ونظرة سريعة إلى الخارطة العربية تُبيّن ان تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية «داعش» الذي يختزل الارهاب في أوقح وأبشع اشكاله ووسائله بات موجوداً في كل دول المنطقة، في العراق الذي منه انطلق هذا التنظيم واعلن «دولته» وذاع صيته. وفي سوريا التي تسيطر «داعش» على ثلث ارضها ويتحكم بمواردها ويفرض نظامه على سكانها. وفي مصر التي تعاني من إرهاب اقام بنيته التحتية في سيناء وبايع «داعش» من اجل زعزعة استقرار مصر وضرب امنها واقتصادها وجيشها. وفي ليبيا التي تمزقها فوضى الإرهاب والعنف ولم تتلمّس بعد طريق الحل والسلام وما زالت في حالة «اللادولة». وفي تونس البلد الوحيد الذي ازهر فيه الربيع العربي إصلاحات ومسارات ديمقراطية، ولكن الإرهاب نقّض عليه الفرحة وحال دون إكتمال الإنجاز. وفي اليمن ايضاً بات لـ «داعش» موطن قدم وينافس تنظيم القاعدة في جنوب البلاد…
الخطورة في هذا الإرهاب المتغلغل في اكثر الدول العربية لا تكمن فقط في تهديده لإستقرار وأمن هذه الدول ولتطلعات شعوبها، وانما في انه صار مصدر التهديد الأول للإستقرار الإقليمي وللأمن العالمي، اي انه صار مشكلة ومعضلة إقليمية – دولية. وهذا ما تثبته التطورات والوقائع:
1- تنظيم «داعش» لم يبدّل فقط في داخل الدول واوضاعها وانما بدّل في حدودها وكياناتها التي اعتبرها مصطنعة ومفتعلة ضارباً عرض الحائط كل النظام الإقليمي الذي استلزم بناؤه وتثبيته عقوداً من الزمن مثلما ضرب كل القيم والنظم والمفاهيم…
2- لم يقتصر الإرهاب اهدافه على دول المنطقة ولم يعد يستهدف فقط انظمتها وجيوشها ومصادر قوتها وانما بات ينتقي اهدافاً اوسع نطاقاً ويوجه من خلالها رسائل وعروض قوة. وما التفجير الذي اصاب الطائرة الروسية في اجواء سيناء إلا مؤشر اول الى خطورة الإرهاب وما يمكن ان يفعله لأنه لا يعترف بخطوط حمراء ولا تقيّده «ضوابط وقواعد لعبة».
3- وصل الإرهاب وبأسرع مما كان متوقعاً الى قلب اوروبا ليصيبها إصابات موجعة في أمنها واستقرارها الإقتصادي والإجتماعي ويدفعها قسراً الى مراجعة أنظمتها وقوانينها بما يتناسب مع الوضع الجديد الذي فُرض عليها وللمرة الأولى في تاريخها الحديث وتقديم الأمن والإستقرار على «الديمقراطية والحرية». واذا كانت فرنسا تلقّت اول موجة ارهابية عالية واذا كانت بلجيكا شكّلت جبهة خلفية لهذه الموجة ونقطة انطلاق وإرتكاز، فإن لا شيىء يمنع ان يطال الخطر الإرهابي اي دولة اوروبية اخرى ولا شيىء يضمن ان تكون اي عاصمة اوروبية في مأمن ومنأى عن الإرهاب…
ومما لا شك فيه ان اوروبا تتقاسم مع العالم العربي مخاطر الإرهاب وفاتورته الباهظة، وان الأوروبيين باتوا يشعرون أكثر فأكثر بخطورة الأزمات والحروب المندلعة في الشرق الأوسط وبدأت تطرق ابوابهم وتدخل بيوتهم وتغيّر نظام حياتهم، وتُلقي عليهم بتبعات ومفاعيل سلبية جداً. خصوصاً وان الأمر لم يعد مقتصراً على الإرهاب المتحرك في إتجاهين عبر ظاهرة الجهاديين المتطرفين والإرهابيين الوافدين من اوروبا والعائدين اليها مع خبرات ومهارات إرهابية وقتالية، عسكرية وأمنية، وانما نشأت أزمة ثانية لا تقلّ اهمية وخطورة هي أزمة اللجوء والهجرة غير الشرعية لمئات الآلاف وحتى لملايين الأشخاص الهاربين من جحيم الشرق الأوسط الى «نعيم» الغرب… وبعدما كان اللاجئون المهاجرون لقيوا تعاطفاً مع معاناتهم وقضيتهم، جاءت الهجمات الإرهابية في باريس لتبدّل المزاج الأوروبي العام وتنقل الأوروبيين شعوباً وحكومات، من حال التعاطف والتضامن الى حال الحذر والترقب خصوصاً بعدما تبيّن ان الإرهاب أفاد من موجة الهجرة وتسلّل عبرها الى داخل اوروبا ليزرع خلاياه ويشّن هجمات انتقامية.
مجمل هذه التطورات والوقائع تثبت بالدليل الحسّي والقاطع ان الإرهاب صار خطراً عالمياً لا يتقدم عليه اي خطر آخر، وصارت محاربته قضية عالمية اولى لا تتقدم عليها قضية اخرى. فلم تعد محاربة الإرهاب مسؤولية دولة معينة وانما صارت مسؤولية دولية، ومسؤولية المجتمع الدولي بأسره، وهو الذي بات مهدداً في الصميم، وبات الأمن والسلم الدوليين في خطر غير مسبوق وغير معهود من قبل، وليس مبالغة القول ان الإرهاب صار شرارة لحرب عالمية ثالثة، وان هذه الحرب لها طرفان: الإرهاب والقوى التي تدعمه من جهة والدول المناهضة للإرهاب والمتضررة منه من جهة ثانية.
وبعد عام واكثر من قيام تحالف دولي ضد الإرهاب ومن ضربات جوية ضد «داعش»، يتبين ان الحرب الجوية لوحدها غير كافية وغير قادرة على إلحاق الهزيمة بهذا التنظيم وان محاربة الإرهاب التي ستكون اولوية مطلقة وعنواناً عريضاً في العام 2016، تستوجب استراتيجية جديدة ومتكاملة تشمل إضافة الى الحرب العسكرية تجفيف مصادر تمويل الإرهاب والمصادر الفكرية والفقهية التي تغذّي التطرّف، من دون إهمال مسألة دعم الحكومات والجيوش التي تتصدى للإرهاب على الأرض وتقاتله وجهاً الى وجه…
وهذا ما يحدث في لبنان حيث ان حكومته ورغم كل الخلافات التي تشلّها عن القرار والحركة متفقة على مواجهة الإرهاب، وكذلك فان الجيش اللبناني ورغم كل المسؤوليات والمهام المناطة به يضع محاربة «الإرهاب التكفيري» في صدارة اهتماماته واولوياته… واذا كان المجتمع الدولي يقدّر للبنان دوره في محاربة الإرهاب، وهو دور اكبر بكثير من إمكاناته وقدراته المتواضعة حيث حقّق نجاحاً بفعل سهر الأجهزة الأمنية والتنسيق فيما بينها، واذا كان المجتمع الدولي يترجم هذا التقدير عملياً من خلال رفع حجم ومستوى مساعداته للجيش والقوى الأمنية الاخرى فإن المسؤولية الأولى تقع على لبنان حكومة وقيادات سياسية لإجراء عملية تحضير داخلي وتعزيز المناعة الوطنية والإلتفاف حول الجيش واطلاق يديه في محاربة الإرهاب…