صحيح أن اختزال كل مشكلات البلد في المشكلات التي يشملها سلاح “حزب الله” ليس بالمدخل السليم لمقاربة الأوضاع، والتحديات، والمآلات، إلا أن ما يجري التغافل عنه في المقابل، أنه ليس هناك مشكلة واحدة، صغيرة أو كبيرة في البلد، اقتصادية أم سياسية أم ثقافية، إلا وتجدها متّصلة، متداخلة، مرتبطة، بمشكلة حركة هذا السلاح وأفعاله وشعاراته في العقدين الأخيرين من عمر البلد.
الواقعية مزدوجة، بل مثلّثة، هنا تكون أو لا تكون: لا يمكن تصوّر واقع لبناني راهن من دون هذا الحزب حتى أجل غير مسمّى، ولا يمكن تصوّر استقرار لبناني منهجي طالما بقي الحزب على ما هو عليه، ولا يمكن تصوّر تبدّل نوعي في طبيعة هذا الحزب ونهجه، على سبيل “مراجعة” لسياسته في الداخل، وتحديداً خلال مرحلة انسحاب الوصاية السورية وما بعدها، ناهيك عن “مراجعة” سياسته في الاقليم، وكلمة “سياسة” هنا تلطيف لما هو أقرب الى الأمني والحربي.
صحيح ان الحزب لم يبرز بادىء ذي بدء بوصفه العقدة الاساسية التي تحول دون تشكيل حكومة عتيدة بعد الانتخابات، وأن الصيغة التي اعتُمدت منذ خطاب قَسَم الرئيس ميشال عون، التعديلية على “بند المقاومة” قبله، اعتُمدت في البيان الوزاري للحكومة التي تُصرّف الاعمال حكومياً، ولا خلاف سياسي تقني عليها في الوقت الحالي، كما لا مشكلة جوهرية متّصلة بحصة الحزب الوزارية المباشرة. مركز العرقلة اتصل بشكل محوري في الشهرين الماضيين بأزمة “تفاهم معراب”، ولم نبدأ نعي أن هناك اشكالية تتعلّق بـ “حزب الله” بالتحديد إلا من اللحظة التي عدنا فيها الى موّال “التطبيع مع النظام السوري”، وبما يرمز بوضوح الى اتجاه مناكف مع مقولة “النأي بالنفس” التي شكلت اطاراً اعتبارياً أو معنوياً لاستمرار الحكومة قبل الانتخابات. ثم انتقلنا من التهديف على فكرة “النأي بالنفس” الى التهديف على فكرة “ربط النزاع” من خلال الاتجاه الاستفزازي، في أعقاب انطلاق المرحلة النهائية من عمل المحكمة الدولية.
الانقسام حول المحكمة، كما حول سوريا، وحول سلاح الحزب، هي كلها انقسامات مزمنة وحادة وليست وليدة اليوم، والتعامل معها كما لو انها مستجدة وداهمة في الوقت الحالي فيه مجافاة فظة للواقع الابسط، وفيه تأجيج للانفعالية والمكابرة في وقت يرزح البلد تحت مجموعة من المشكلات العويصة.
هل ما زال ممكناً اليوم، استصلاح فكرتَي النأي بالنفس وربط النزاع، على محدوديتهما وضبابيتهما من الأساس؟
ليست الإجابة بنعم أو لا بهذه السهولة، تماماً مثلما أن المطروح ليس “كل شيء أو لا شيء”. لكن هناك مسار، وفي هذا المسار هناك خلاف عميق نجحنا في كبح صاعقه لسنوات طويلة، وتتجدد حيوية كخلاف عشية نطق المحكمة الدولية بالحكم. هذا الخلاف العميق والمزمن، الذي جرى ربط النزاع حوله مطوّلاً، يحتاج الى إطار راهن له محدّدات أخرى لا يمكن أن يرسمها ويحدّدها “قانون التغلّب” المسلّح الداخلي لوحده.
منذ سنوات طويلة، والبيانات الوزارية يُدرج فيها بند المحكمة والتزام لبنان حكومة وقضاء بها، جنباً الى جنب مع البند المتعلّق بالحق في المقاومة، وعندما تُعطى الثقة لكل من هذه الحكومات المتعاقبة، تُعطى لها بالمجمل إلا أنه مفهوم أن مكوّناتها تنقسم بين من يهمّه بند المحكمة وبين من يهمّه بند الحق في المقاومة. “حزب الله” يعتبرها حكومة اسرائيلية لكنه يستمر في حكومات تتبنّى المحكمة الدولية في بيانها الوزاري. والشيء بالشيء يُذكر في ما يتعلّق بأخصام الحزب، الذين حين يعطون الحكومة الثقة، لا يستتبع الأمر أن مسألة السلاح الحزبي لم تعد خلافية، بالعكس تماماً. بالمحصلة، أحد البندين يُشكّل إطاراً إيجابياً حول أشخاص محدّدين، والبند الآخر يضعه في إطار سلبي تماماً. الظالم بموجب بند المحكمة، يجري النظر له كمظلوم بموجب بند حق المقاومة. شقاق مزمن، لكنه يدخل مرحلة ملتهبة في الشهور الاخيرة من عمر المحكمة. هل يمكن التحكّم بهذا الالتهاب، وإلزامه بسقف معين؟ لا بد، ولكن، ليس هناك من وصفة عملية في الوقت الحالي.
هل ولّى زمن البندَين المتعايشَين على مضض في البيانات الوزارية؟ المناخ الحالي يوحي بهذا. الى أي حدّ ومدى؟ المناخ الحالي غير واضح.