الذين يتواصلون مع الدوائر الفاتيكانية بدأوا يشعرون بأنّ البابا فرنسيس بات على حافة اليأس من الزعماء المسيحيين في لبنان، والموارنة تحديداً. فبعض هؤلاء يُظهِر نقصاً حاداً في الشعور بالمسؤولية في ظرف تاريخي يمرّ به مسيحيو لبنان والشرق. وعلى رغم التحذيرات التي وجّهها إليهم الكرسي الرسولي، فإنّ شيئاً لم يتغيَّر.
يقول المواكبون للوساطات الجارية، على الصعيد المسيحي، في الأيام الأخيرة: هناك حلحلة ظهرت لدى ثلاثة من المرشحين الأقطاب للرئاسة: الدكتور سمير جعجع أبلغ الوسطاء أنه يدعم مرشح التوافق، وكذلك الرئيس امين الجميل. وحتى النائب سليمان فرنجية يبدو مستعداً للقبول بتوافقي، إذا لمس ابتعاد الحظّ عنه هذه المرّة. لكنّ العقدة المستمرة تبقى عند العماد ميشال عون.
ويروي بعض الذين ذهبوا إلى العماد عون في الرابية، قبل أيام، أنهم نقلوا إليه مجدداً رغبة بكركي والفاتيكان في ضرورة أن يتخلّى عن صفة المرشح، في غياب الفرصة لبلوغ موقع الرئاسة، وأن يتحوَّل إلى موقع الناخب القوي. فهذا أضمن للمسيحيين الذين يخسرون تدريجاً موقع الرئاسة بسبب التصارع الماروني عليه.
وكان ردّ «الجنرال» حازماً: «لقد أوقعوني في الفخّ في الدوحة عام 2008، ورضخت لخيار الرئيس التوافقي بعدما مارسوا عليَّ الضغوط وأقنعوني بعدم عرقلة التسوية. واليوم، يكرِّرون المحاولة. لكنني هذه المرّة لن أتراجع أيّاً كانت الظروف».
وفي النقاش مع عون، سأله البعض: ولكن، إذا لم يتأمَّن التوافق الوطني حول المرشح المسيحي القوي تمثيلياً، أيْ أحد المرشحين الأقطاب الأربعة، ألن يكون الفراغ الرئاسي، الذي لا سقف زمنياً له، أشدّ خطراً على وضع المسيحيين من الرئيس التوافقي؟
فأجاب: لا. الفراغ أفضل من الرئيس الضعيف. وفي أيّ حال، إذا توافرت النية الحقيقية عند القوى المسيحية جميعاً لانتخاب واحدٍ منّا، نحن الأقطاب الأربعة الأكثر تمثيلاً للمسيحيين، فإنّ وصوله إلى بعبدا سيكون مضموناً.
وعندئذٍ، توجَّه ضيوف «الجنرال» إليه بالسؤال: «هل مِن أحد المرشحين الأربعة مستعدٌّ للانسحاب لمصلحة الآخر؟ وتالياً، هل أنتَ مستعدٌّ للانسحاب لمصلحة أيّ منهم؟
هنا صمت «الجنرال» ثم قال: الأكثر تمثيلاً له الأولوية. وعلى الآخرين أن ينسحبوا له. وأنا الأكثر تمثيلاً!
وهكذا، خرج العديد من سعاة الخير من دارة العماد عون في الرابية وهم يفكِّرون بقصة البيضة والدجاجة. أيّهما أولاً؟ فهي مثالية لوصف الوضع المسيحي.
ولذلك، يصمت البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في هذه الأيام. وربما تكون هذه المرحلة هي الأطول صمتاً له في الملف الرئاسي. فقد أحرق كلّ الأوراق واستنفد كلّ المساعي والوساطات والضغوط، ولكن من دون نتيجة. وقبل فترة وجّه رسالة إلى عون يدعوه فيها إلى تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية. وفي مساعيه للتقريب بين المتصارعين الموارنة، وصل البطريرك إلى ما وصل إليه سلفه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير.
في الأشهر الأخيرة، حاول البطريرك الراعي أن يلعب ورقة فرنسا والفاتيكان لإنقاذ الملف الرئاسي من الجمود القاتل، مستفيداً من دينامية خلقها الاتفاق بين إيران والولايات المتحدة. ولكن فشل الرهان على فرنسا بسبب اهتزاز موقعها في لعبة المفاوضات حول النووي. وبقي الرهان على زيارة البابا الأخيرة لواشنطن.
وتقول المصادر الكَنَسية المتابعة: عندما عاد البابا من الولايات المتحدة، وجّه الفاتيكان تحذيراً إلى القادة المسيحيين بأنّ إنقاذ الرئاسة والوضع المسيحي عموماً هو في أيديهم تحديداً، قبل البحث عنه في أماكن أخرى. وهذا يعني، وفق المصادر، أنّ البابا لم يلمس في واشنطن إشارة حاسمة أو وعداً بإنهاء الفراغ الرئاسي، وأنّ الزعماء المسيحيين هم المسؤولون أولاً، بمنازعاتهم، عن استمرار الأزمة.
وهناك اقتناع في الفاتيكان، بناءً على التقارير والإيضاحات التي تلقاها من سفيره المونسينيور كابرييل كاتشيا والدوائر الكَنَسية اللبنانية، بأنّ اتفاق المسيحيين في ما بينهم يسهِّل كثيراً إنجاز الانتخابات الرئاسية. فالمسيحيون ما زالوا يمتلكون القدرة على إيصال المرشح الذي يريدونه، ولن يقوم أحد باعتراضهم. ولكنّ القوى الإقليمية تستفيد حالياً من التناقضات المسيحية لتحقيق مصالحها.
ولكنّ الفاتيكان يتجنّب أن يكرر المحاولات الفاشلة التي بذلها الفرنسيون مع طهران. فمن الناحية المعنوية، ليس مسموحاً أن يقود الفاتيكان وساطة فاشلة. وفي أيّ حال، يدرك الكرسي الرسولي أنّ رصيده في طهران لم يتزعزع بتأثير أيّ عامل سياسي. وعلى العكس، هناك مسار جيِّد للعلاقة بين الطرفين في السنوات الأخيرة.
ولذلك، يفكر الفاتيكان في إرسال موفد إلى طهران للبحث في الملف الرئاسي. وربما تشمل زيارته السعودية أيضاً. لكنه لن يفعل ذلك إذا لم يجد الظروف مناسبة لإنجاح المبادرة في العواصم الإقليمية كما في بيروت. وسيكون ذلك وارداً بعد ظهور النتائج التي أسفرت عنها زيارة البابا الأميركية.
ولكن، سواءٌ نجحت الوساطات الإقليمية أم فشلت، فالكرسي الرسولي يشعر بالأسى لكون الواقع المسيحي في لبنان محكوماً بالانقسامات. وبدلاً من أن يضطّلع المسيحيون بدورٍ إيجابي في الصراع المذهبي، يكفل لهم استمرارهم، هم يتصرّفون بشكلٍ يعرّضهم ليكونوا «فرق عملة» بين المتنازعين.
وباتت الدوائر الفاتيكانية على اقتناع بأنّ حلَّ مشكلة المسيحيين في لبنان هو في أيديهم أولاً، وقبل أيّ كان، وأنّ عليهم أن يتخلّوا عن الأنانيات الصغيرة ويقوموا بإنقاذ أنفسهم قبل الذهاب إلى الآخرين وطلب الوساطات والتدخّلات.
وفي الخلاصة، تقول المصادر، بلغ الفاتيكان حدود اليأس من الزعماء المسيحيين في لبنان. لكنه لم ييأس من قضية المسيحيين في لبنان والشرق، لأنّ اليأس ليس صفة مسيحية في المطلق. ولذلك، لن يسحب البابا فرنسيس يده من الملف المسيحي في لبنان، وهو ماضٍ في حراكه مع القوى المعنية دولياً وإقليمياً للوصول إلى تسوية لملف الرئاسة.
وسيكون مستغرَباً أن يتفاوض الفاتيكان مع قوة إقليمية هي طهران لعلها تقنع العماد عون بأن ينسحب من المعركة ويقبل بالتسوية، علماً أنّ عون هو أحد الأقطاب المسيحيين الأربعة، أبناء الكنيسة، والمعنيين مباشرة بمستقبل الرئاسة والوضع المسيحي!
وينقل سياسي لبناني عن كاردينال يشغل منصباً رفيعاً في الفاتيكان قوله: «لا حدود لصبرنا وقدرتنا على ترويض الزمن. تذكَّر يا عزيزي أننا كنيسة عمرها 2000 سنة»!
ربما يلعب الفاتيكان اليوم آخر أوراقه في ملف الرئاسة. وبعد ذلك، لن يكون أمامه سوى الصمت الذي تلوذ به بكركي. فهل يحافظ الفاتيكان على صبره في الملف اللبناني، أو يدفعه زعماء الموارنة، وعون خصوصاً، إلى القنوط؟ وهل «يبقّ البحصة» ذات يوم ويسمي الأشياء بأسمائها أو يكتفي بالتحفُّظ «الكهنوتي» الشهير؟