IMLebanon

هل ثمة من بمقدوره حل الأزمة الشاملة لوحده أو أكثر من سواه؟

ما تسجّله مرويات الثورة الروسية عام 1917، هو على نحو مشهدي رهيب، صورة بالمقلوب عن الوضع اللبناني الراهن! 

فبعد سقوط الحكم القيصري، وقيام الحكومة الموقتة، وعودة المنفيين من قادة الأحزاب المحظورة سابقاً والمشاركة في الإطاحة بالقيصرية، سجّلت هذه المواجهة الكلامية في المؤتمر الأول لسوفيات بتروغراد، في مطلع حزيران من ذلك العام. إذ نهض وزير البريد والتلغراف إيراكلي تسريتللي، وهو من حزب المناشفة وقال: «في اللحظة الراهنة، ليس ثمة في روسيا حزب سياسي بمقدوره أن يقول لنا: أعطونا السلطة، وانسحبوا، ويمكننا أن نتولى الأمر لوحدنا«. ويفترض أن علامات الإعجاب بحكمة الجيورجي تسريتللي هذه قد تداولها معظم المشاركين في المؤتمر. يروى أنه في تلك اللحظة، تدخل فلاديمير إيليتش لينين من رحم القاعة، وقال: «هذا الحزب موجود، وهو جاهز في أي لحظة للاستيلاء على السلطة». وقوبل كلامه هذا بالاستهجان والضحك والاستهزاء، وبالتشكيك من أقرب رفاقه، وثمة من يضيف أن لينين وقتها قال: «اضحكوا ما شئتم». 

في روسيا عام 1917، كان هناك وزير يقول إذاً إن ما من حزب قادر بمفرده على طرح معالجة شاملة للأزمة الشاملة وبالذات لأنها شاملة، وجاءه الرد ممن لم يكن بعد قد تحكّم بكل مفاصل القرار داخل حزبه حتى تلك اللحظة، في ما يتعلق بالسياسة الواجب اتباعها في تلك المرحلة، بأن مثل هذا الحزب موجود، وجاهز، ويتجهز أكثر. أشهر قليلة، وسوف يقود هذا الحزب البلشفي انتفاضة عسكرية ناجحة مدعومة بقاعدة اجتماعية حيوية محددة للاستيلاء على مركز الحكم.

لنعد الى وقتنا هذا. في بلدنا، يحدث منذ سنوات العكس. ليس هناك طبعاً من يقترح حلاً شاملاً للأزمة الشاملة بشكل برنامجي يخاض الجدل على أساسه. لكن هناك أكثر من طرف قد تنطّح، على مقاسه، لترديد كلمات لينين «مثل هذا الحزب موجود». قالتها في لحظات بعينها حركة الاستقلال اللبناني الثاني، «ثورة الأرز» كزمن جديد للكيان: «مثل هذه الحركة موجودة». وقالها على نحو تغلّبي وانقلابي أوضح «حزب الله»، وبالسلاح: «مثل هذا الحزب موجود». وقالها العماد ميشال عون بشكل مكثّف حول شخصه: «مثل هذا المنقذ الصالح وحده لرئاسة الجمهورية موجود». ثم قالها قسم واسع من الناس الطيبين، الذين سئموا سياسات الفشل والتردّي والاستهتار بمصالحهم وحقوقهم، وتشكلوا في حراك مدني شعبي، قالوا: «مثل هذا الحراك موجود«. ما يدعو للاندهاش بحق، هو أن صوت تسريتللي الذي كان يبدو حكمة بديهية بالنسبة الى المشاركين في سوفيات بتروغراد، ليس له مثل هذا الصدى لبنانياً. تخيّل فقط لو أن واحداً منا استعار من تسريتللي صوته وقال اليوم: «في اللحظة الراهنة، ليس ثمة (في لبنان) حزب سياسي (أو تيار أو جبهة أو حركة أو حراك) بمقدوره أن يقول لنا: «أعطونا السلطة، وانسحبوا، ويمكننا أن نتولى الأمر لوحدنا«. هذا مع ان هذا التصريح بالذات يفترض ان يكون البداية، البداية التي لا غنى عنها، لسلوك الدرب الوعرة باتجاه الحل الشامل للأزمة اللبنانية الشاملة، من حيث هي أزمة تمثيل، وأزمة شرعية، وأزمة سيادة، وأزمة حدود، وأزمة اقتصادية اجتماعية، أزمة دستور، لكن أيضاً وقبل كل شيء أزمة القانون ومفهومه في لبنان، وأزمة مجتمع، وأزمة قيم، وأزمة تباطؤ تداول بين الأجيال، وأزمة كيان، وأزمة كل طائفة والطائفية بشكل عام، وأزمة اللاطائفية المطيّفة أيضاً وأيضاً، وأزمة ميثاق وطني بلا عقد اجتماعي يمدّه بالرصيد. ليس هناك من يمكنه لوحده أن يقول: «اعطونا السلطة وانسحبوا ودعونا نتولاها بسلام»، وبالكاد هناك من بمستطاعه ان ينسحب من السلطة، أو ما بقي منها. 

هذا الموقف الذي جسده وزير جناح المناشفة قبل قرن إلا سنتين من يومنا هذا، له راهنية خاصة في الوضع اللبناني الحالي. من جهة، هو يلفت نظرنا الى أنه ما من فريق سياسي قادر على أن يطرح الأمور من موقع «أعطونا السلطة وانسحبوا»، وهذا يفترض أن يقرّ به الجميع، كل بما يعنيه، هذا في الشق الإداري والاقتصادي والاجتماعي من السلطة، وهذا في ما يعني سلطة التحكم بالأمن وموازين القوى المسلّحة، وذاك في ما يتعلّق بالمنصب الأعلى المشتهى في الدولة، وهكذا. وطبعاً، لا انتخاب رئيس ولا انتخاب مجلس نيابي جديد ولا قيام مؤتمر تأسيسي ولا أبدية طاولة الحوار، إذا ما لخصنا كل ما هو مطروح اليوم، بقادرين على تجاوز حكمة تسريتللي بأن ما من فريق قادر على تولّي الأمور بنفسه والطلب من الآخرين انتظاره فقط كي يخرج بالبلاد من أزمتها. محال! لو أقر الجميع بذلك الآن سنراكم على خطوة إيجابية جدية.

بالتوازي، الجانب القلق عند تسريتللي، والذي فتح ثغرة لتدخل لينين ثم لانتفاضة البلاشفة بعد أشهر قليلة، هو أن لا أحد يملك حلاً شاملاً للأزمة الشاملة. قال لينين بلى، أنا – أو حزبي، نملك مثل هذا. ولينين طبعاً ليس خالد حدادة! 

في لبنان ليس هناك من يملك اليوم ولو بذرة أولية لحل شامل للأزمة الشاملة، وهناك من يجاهر بأنها ليست مسؤوليته أساساً، كما لو كان ممكناً أن تكون لديك حيثية معتبرة إن حذفت نفسك من دائرة المبادرات لحل هذا النوع العميق والكارثي من الأزمات الشاملة. والحال أن إقرار الجميع بأن أياً منهم لا يستطيع تحمّل المسؤولية لوحده، سيعني أيضاً أن حلاً شاملاً للأزمة الشاملة لا يملكه أحد لوحده، فهل يكرّس ذلك كنقطة اجماعية؟ وهل من يمكنه أن يدّعي في الوقت نفسه بأن له رصيداً في حل الأزمة أكثر من سواه؟ 

تشكيل إجماع حول هذه «الجزئيات» لم يعد أمراً نافلاً اليوم. إنّه ممر إلزاميّ لإعادة الاعتبار للداخل اللبناني ككل كإطار لحل أزماته، بعد أشهر على إعادة الاعتبار العملية للطابع الأهلي والاجتماعي والمحلي جداً لأزمة كان يراد لها فقط أن تصوّر كمجرّد أثر للمسائل النووية والإقليمية.