نسمع العديد من التهويلات حول انهيار إقتصادي في لبنان نتيجة تردّي الوضعين الإقتصادي والمالي، والأهم التخبّط السياسي الذي يمنع أية إصلاحات كما ويُقوّض أموال مؤتمر سيدر 1. وإذا كانت التحاليل تُظهر أنّ لبنان بعيد من الانهيار، إلّا أنّ الكلفة الناتجة عن التأخر في تنفيذ إصلاحات ستؤدّي حتماً إلى ارتفاع ملحوظ في الضرائب إبتداءً من العام 2019.
تُشكّل الثقة العنصر الأساسي في اللعبة الإقتصادية وترتكز بشكل أساسي على عوامل ستّة تزيد أو تُقلّل منها: الثبات السياسي، الثبات الأمني، تداول السلطات، قضاء مُستقلّ وقوانين عصرية، وجود موازنة سنوية وخطط إقتصادية، مُكافحة الفساد. وتقييم هذه العوامل في لبنان يؤدّي إلى الإستنتاج أنّ ثقة اللاعبين الإقتصاديين، أي المستهلك والمستثمر، هي في أدنى مستوياتها. لذا، من غير المُستغرب تسجيل أرقام سيئة على الصعيد الإقتصادي.
على صعيد آخر، تتموّل الدول من خلال الضرائب على النشاط الإقتصادي. وتراجع هذا الأخير يفرض عجزاً في الموازنة (إذا ما كانت هذه الأخيرة واقعية)، مما يعني أنّ الدولة تحتاج إلى الإستدانة في الأسواق أو قرب المصارف لتغطية العجز الناتج في الموازنة. وفي لبنان يأتي الإفراط في الإنفاق ليزيد من التردّي الحاصل في عجز الموازنة، مما يعني المزيد من الإستدانة وبالتالي زيادة الدين العام ومعه العجز.
إذا السؤال الأساسي المطروح: هل هناك من انهيار إقتصادي أو مالي أو نقدي؟ الجواب بكل بساطة كلا وذلك بحكم وجود عناصر قوّة لا يُمكن تجاهلها. إلّا أنّ جوابنا لا يعني أن الوضع سليم:
أولاً – الوضع الإقتصادي: غياب الإستثمارات يُعتبر المسؤول الأول عن التردّي الإقتصادي لأنه معروف أن ليس هناك من نمو إقتصادي من دون إستثمارات. وما يلفت النظر أنّ استهلاك لبنان من البضائع الأجنبية إرتفع في حين أنه قلّ داخلياً، وهذا الأمر لا يُمكن أن يكون سببه إلا غياب الإستثمارات في الماكينة الإقتصادية اللبنانية. بالطبع هناك إقفال للشركات والمؤسسات التي أصبحت كلفتها أعلى من مبيعاتها، إلّا أنّ الأرقام المُتداول بها تبقى ردّة فعل طبيعية على التراجع في الإستهلاك على البضائع اللبنانية.
إذاً، نستنتج مما سبق أنّ هناك مستوى مُعيناً لا يُمكن النزول تحته في عدد الشركات التي تُقفل نظراً إلى وجود الطلب الذي يُحافظ على مستوى من الإستهلاك الداخلي، وهذا الأمر يعني أنه لا يُمكن أن نشهد انهيارا في الماكينة الإقتصادية ولا حتى انكماشا في المدى المنظور. جلّ ما في الأمر أننا سنشهد تآكلا في الماكينة الإنتاجية، والتي على الأمد الطويل ستدفع المُستهلك إلى تفضيل البضائع الأجنبية على البضائع المحلّية. من هذا المُنطلق نرى أنّ هناك إلزامية لتحفيز الإستثمارات لعودة النمو الإقتصادي، خصوصاً أنّ لبنان بحاجة إلى إعادة تأهيل لكل ماكينته الإنتاجية مما يعني أنّ كل القطاعات قادرة على تحقيق عائدات على الإستثمارات أعلى من مستوى الفوائد التي تُقدّمها المصارف التجارية. والأهم في الأمر أنّ غياب الفرص الإقتصادية يؤدّي إلى خسائر كبيرة خصوصاً مع إعادة التموضع الجيو-إقتصادية لبعض الدول على الصعيد الإقليمي، مما سيحرم لبنان من العديد من الفرص وعلى رأسها المساهمة في إعادة إعمار سوريا.
ثانياً – الوضع المالي: على الرغم من الإفراط في الإنفاق الذي يُمثل النهج المُتّبع في الدولة اللبنانية اليوم، نرى أنّ احتمال إفلاس الدوّلة اللبنانية مُستبعد. فالإنفاق العام في العام 2018 والذي من المتوقّع أن يفوق الـ 18 مليار د.أ (27 ألف مليار ل.ل) زاد بشكل ملحوظ نتيجة عدم التزام السلطة التنفيذية بالأرقام المنصوص عليها في موازنة العام 2018، والتي تُشكّل سقفاً للإنفاق المسموح القيام به. الجدير ذكره أنّ مستوى الخدمات العامّة لم يتغيّر لكي يظن المواطن أنّ هذه الزيادة في الإنفاق ذهبت إلى الخدمات. في الواقع نعتقد أنّ التوظيف العشوائي في القطاع العام، قطاع الكهرباء، وخدمة الدين العام هي المسؤولة في الدرجة الأولى عن هذا الإنفاق. والأصعب في الأمر أنّ هذا الواقع قد يتردّى أكثر في العام 2019 مع ارتفاع الإنفاق العام إذا لم تقم الحكومة بإجراءات مُعينة للجم هذه البنود.
من هنا نستنتج أنّ هناك زيادة في الطلب على الأموال من قبل الدولة في الأسواق ولدى المصارف. هذه الزيادة تستطيع المصارف تأمينها من دون إشكالية باستثناء أنّ الكلفة ستكون أعلى، وبالتالي ستزيد من خدمة الدين العام التي ستفوق الـ 5,7 مليارات د.أ. نهاية الـ 2018.
ثالثاً – الوضع النقدي: لم تستطع الحملات المُغرضة على الليرة اللبنانية التي تقودها جهات مشكوك في نواياها تجاه الكيان اللبناني أن تؤثر في سعر صرف الليرة. وعلى الرغم من نشر الذعر بين المواطنين نتيجة تصريحات غير مسؤولة، إستمر الطلب على الليرة اللبنانية بمستويات مُرتفعة حدّت من الحاجة لمصرف لبنان للتدخل في سوق القطع. ونلاحظ من خلال البيانات التاريخية لسعر صرف الليرة أنّ هذا السعر يتأثر بالتخبّط السياسي القائم كما بأرقام المالية العامّة السيئة. هذان العاملان أصبحا تحت سيطرة حاكم مصرف لبنان الذي استطاع خلال العقدين الماضيين التمكّن من التقنيات المالية التي تحمي الليرة اللبنانية والقطاع المصرفي. الجدير ذكره أنّ احتياط مصرف لبنان ما زال قادراً على الدفاع عن الليرة ضدّ أية مُضاربات من قبل اللاعبين الماليين مهما كان حجمهم السوقي، أضف إلى ذلك أنّ حاكم مصرف لبنان وبالثقة التي يتمتّع بها في المجتمع الدوّلي، يملك بين يديه أحد أهم أسلحة الدفاع عن الليرة (نتحفّظ عن ذكرها نظراً إلى أهمية عنصر المفاجئة) والتي تستطيع التصدّي لأي حدث مهما كان نوعه.
إذاً، مما تقدّم نرى أنّ الإنهيار هو كلمة لا تناسب الواقع اللبناني الحالي بل هي تُعبّر عن تقييم سلبي للاعبين الإقتصاديين وحاجتهم لوجود حكومة تقوم بمهامها، خصوصاً تخفيض الإنفاق العام وتحفيز النمو الإقتصادي. إلّا أنه وكما سبق الذكر، فإنّ التأخر بهذه الإجراءات سيرفع من كلفة الدين العام إلى مستويات ملحوظة ستدفع من دون شك الحكومة القادمة إلى فرض ضرائب على المواطنين بشكل كبير، وهذا الأمر أكيد من ناحية أنّ الحكومات تتموّل من الضرائب أو الإستدانة.