مؤسف جداً أن يعمد البعض، في سياق السجال حول طبيعة الحكومة المنوي تأليفها، إلى توجيه إهانة لمئات آلاف اللبنانيين ممن يعتبرون درة التاج ومصدر الفخر لهذا البلد، حتى ولو حصل ذلك عن نيّات حسنة.
الحديث هنا عن تلك المقاربة التي ترى في «التكنوقراط» إنساناً محدوداً في إطار اختصاصه، يطغى عليه الغباء السياسي ويفتقد القدرة على إدارة شأن عام، في مقابل «ساسة» أنعم عليهم المولى بقدرات خارقة، تجعلهم ضليعين في كل المجالات، من التنمية إلى التربية والزراعة والصناعة والاقتصاد والمالية العامة والثقافة.
المفارقة أنّ الغالبية العظمى من رؤساء وزراء لبنان، منذ الطائف وحتى اليوم، كانوا رجال أعمال بلغوا مناصبهم بفضل نفوذهم المالي. وكأنّ المال هو المعبر الوحيد الذي يمكن من خلاله الانتقال من حرفة التكنوقراط إلى صفة السياسي، او انّ «التكنوقراطي البسيط يصبح سياسياً محنكاً اذا قدّم الطاعة للزعيم، او اذا حاز بطاقة حزبية. أما المضحك المبكي فتصوير الأمر وكأنّ أصحاب الاختصاص أجهضوا إبداعات رجال السياسة على مدى العقود الماضية.
ماذا كان سليم الحص، تكنوقراطياً أو سياسياً؟ من أسقطه في الانتخابات لتفوز غنوة جلول؟ كميل أبو سليمان أحد ألمع محامي لندن. من قيّد حركته في وزارته، اختصاصه أو حدود السياسة المرسومة؟ لماذا عادل أفيوني، الذي كان محط آمال الكثيرين كونه صاحب خبرة مصرفية، خرج كما لو أنه لم يدخل؟
ماذا عن آلان طابوريان وجان لوي قرداحي؟ زياد بارود، حي يرزق. إسألوه من هدّده لمنعه من العمل؟ ماذا حلّ بجورج افرام؟ وهو من أنظف الشخصيات التي عرفها لبنان. ألم يُقل من الحكومة؟ ماذا عن شربل نحاس، ألم يمنع، بالسلاح، من دخول أحد مرافق وزارته، ثم قدّم استقالته في حكومة أخرى امتثالاً لما يمليه عليه ضميره؟ من يكتم أنفاس آلان بيفاني في وزارة المالية؟ ولماذا؟ هل لأنه فقط خبير مالي ولم يحظ بنعمة السياسة؟ ماذا فعلتم بعاصم سلام الذي مات قهراً في دفاعه المستميت في وجه «سوليدير»؟
هذا طبعاً في لبنان حيث لا يريد أهل الحل والعقد مجرد النظر إلى تجارب الآخرين. هل منهم من يعلم من هو شوكت عزيز الذي تولى رئاسة وزراء باكستان ولا تزال بصمته ظاهرة في هذا البلد؟ هل عرف أحد منهم كمال درويش الذي أحضر من البنك الدولي لانتشال تركيا من القعر الاقتصادي، فأعاد بناء ماليتها وأرسى أسس النهضة الاقتصادية التي عرفتها في العقد الاول من القرن الحالي؟
من يجب أن يقدم شهادته بالآخر؟ الساسة بالتكنوقراط أم العكس؟ من أوصل البلاد إلى ما هي عليه؟ لا ماء ولا كهرباء، شعبها يعيش في بؤرة تلوث، وانهيار اقتصادي ومالي ونقدي؟ أليست طريقة الادارة لهذا البلد، وطبيعة الناس التي أتت بها لإدارة المرافق العامة؟ بنيتهم بيروقراطية ضخمة على قاعدة العصبيّة والولاء، أفسدوا في الأرض، واضطهدوا كل من حاول البناء، واحتقروا من كان بخدمتهم، ولم يرف لهم جفن. حاصروا الكفاءات وهجّروها إلى أصقاع الأرض، فنجحت وأبدعت، وتركت بصمات في الغرب وبلدان الاغتراب، على جميع القطاعات الإنتاجية. ماذا كانت النتيجة؟ دول العالم فتحت أبوابها لـ«تكنوقراطنا» وقدمت لهم جنسياتها ووضعتهم في الصفوف الأولى، وها هم اللبنانيون ينتحبون على الأطلال.
المقاربة الوحيدة التي يمكن تفهّمها هي قلق البعض من الإتيان بشخصيات غير معروفة، بمعنى غير مجربة في ملفات سياسية، على قاعدة أنه ربما يتم استغلالها للتآمر على محور المقاومة. ولعل هذا السبب الذي يجعل هذا البعض يرفع لواء «الحكومة السياديّة». لا داعي لهذا الالتفاف. فلتعلن بصراحة. ولكن قبل ذلك، من قال باستعداد التكنوقراط للتنازل عن خطوط حمراء تتعلق بسيادة الوطن؟ ومن أفتى بمناعة السياسي في وجه محاولات كهذه؟ أليست تجارب الخيانة المستمرة من سياسيين ماثلة أمام الجميع؟
لا يا سادة، المشكلة ليست في طبيعة الشخصيات، بل في الجهة التي ستختارها وفي آلية هذا الاختيار. ما نمر به اليوم أعظم بكثير من الدخول في سجالات دوغمائية حول أمور تجاوزها العالم منذ عقود. تعقيدات الحياة اليوم تجعل الاختصاصيين «السياسيين» حاجة ماسة، وحال لبنان هذه الأيام تجعل منهم ضرورة وجوديّة. لقد تجاوز لبنان نقطة اللاعودة. التشكيل لم يعد ترفاً. الشارع على شفا الانفجار. والقطاعات الاقتصادية على حافة الإفلاس. الملفات المطروحة تهد جبالاً.
الله يهدي الجميع، والله يحمي لبنان.