ستكون هناك معجزة في 31 تشرين الأول. كثيرون لم يكونوا يصدِّقون أن إيران في ذروة انشغالها الاستراتيجي، من الموصل إلى حلب، وجدت الفرصة ملائمة لـ«ميني تسوية» سريعة في لبنان، هي أقل بقليل من الدوحة ولا تلبّي جزءاً بسيطاً من الطامحين إلى تغيير «الطائف».
«الميني تسوية» بات واضحاً أنها تقوم على عنصرين: لا مانع من وصول العماد ميشال عون إلى بعبدا ولا الرئيس سعد الحريري إلى السراي… أما بقية المشهد وتداعياته فمتروكة إلى حينها.
وثمّة عنصران استراتيجيان دفعا القوى الدولية والإقليمية إلى صياغة «الميني تسوية»:
1 – التداعيات البالغة الخطر التي تنذر بها التطورات المتسارعة، بالتزامن، في حلب والموصل، والتي توحي بأنّ الطابع المذهبي الحادّ للصراع سيتخذ أشكالاً مختلفة في المرحلة المقبلة، وسط ارتفاع واضح في منسوب التوتر بين إيران وتركيا.
وفي بعض الأوساط الإقليمية السنّية كلام عن ترابط بين مجريات الأحداث في الموصل وحلب ومناطق أخرى في سوريا، متّهمين إيران بأنها تريد السيطرة على كامل حلب والموصل وإفراغ مناطق أخرى في العراق لخلق جسر يربطها بالعراق وسوريا فلبنان.
وهذا الوضع يمكن أن ينقل الشرارة السورية والعراقية إلى لبنان، خصوصاً في ظلّ عنصرين: قتال «حزب الله» في سوريا ووجود حالات غير منضبطة في بعض المخيمات الفلسطينية وبيئات النازحين السوريين.
2 – المسارَعة إلى استباق أيّ تغيّر في نهج التعاطي الأميركي مع ملفات الشرق الأوسط بعد انتخاب الرئيس الأميركي الجديد.
لا يريد الإيرانيون إنجاز تسوية كاملة في لبنان في الوقت الحاضر، لأنّ الظروف الملائمة لها لم تنضج. لكنهم لعبوا ورقة سريعة التحقيق، ومزدوجة الهدف:
– إظهار تجاوبهم مع الرغبات العربية والدولية في الحفاظ على الحدّ الأدنى من استقرار الحكومة المركزية في لبنان.
– الإفادة من الوجود، الشكلي على الأقل، للحكومة المركزية كتغطية يحتاج إليها حلفاؤهم في المرحلة المقبلة.
لذلك، مرَّر «حزب الله» الصفقة، وقوامها الآتي: يُسمَح للحليف عون بالوصول إلى قصر بعبدا وللخصم الحريري إلى السراي. وبعد ذلك لكلّ حادث حديث.
حرص الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله على إعطاء العلاقة بين «الحزب» والرئيس نبيه برّي غالبية المساحة في خطابه الأخير، قبل أن ينهيه بإبداء الموافقة على معادلة عون- الحريري. وقد تعاطى معها كجرّاح يحرص على تمرير المبضع بدقة شديدة منعاً لأيّ خطأ في الجراحة، ومنعاً لأيّ خطأ في الفهم قد يصيب أحداً.
يقول البعض: من المبكر أن يتحدّث السيد نصرالله أو سواه عن المضمون السياسي لمرحلة ما بعد انتخاب عون ومجيء الحريري إلى السراي. لذلك، لا يمكن لأحد أن يتوقع منه أن يكشف، في خطابه الأخير، تطلعات «الحزب» السياسية للمرحلة المقبلة.
لكنّ آخرين قرأوا بين سطوره، بوضوح، ما يأتي: علينا واجب الوفاء للحليف، العماد عون. فـ«الحزب» معروف بوفائه للحلفاء. وإذا اقتضت الظروف لوصوله إلى الرئاسة أن يأتي الحريري إلى رئاسة الحكومة، فإننا سنضحّي إكراماً لحليفنا ومراعاة لمصالحه.
ولكن، بعد انتهاء عملية الانتخاب، سنكون قد سدَّدنا ما علينا، ويجب على الآخرين، ولاسيما عون، أن يسمحوا لنا ويوافقونا على اتخاذ الخطوات الأخرى التي نرى أنها حيوية لمصالحنا الاستراتيجية.
هذا هو فحوى كلام نصرالله عن برّي، تزامناً مع تأكيد نواب «الحزب» وكوادره في الأيام الأخيرة على اعتبار العلاقة مع برّي ثابتة وأولوية على كلّ ما عداها. فقط هي عملية انتخاب عون تخرج عن القاعدة. أما عهد عون- الحريري فسيكون محكوماً بمعادلة التحالف الثنائي الاستراتيجي بين «الحزب» وحركة «أمل» كأولوية.
في الموازاة، اعتمد بري مقاربة تلاقي «حزب الله» في تبريره للسير في «الميني تسوية». لذلك قال: «تعطيل النصاب في جيبي الكبير، لكنني لن الجأ إليه… وليس المهم شهر العسل بل المهم أكل العسل». ما يعني أنّ معركة بري الحقيقية ستبدأ بعد انتخاب عون. وبالتأكيد، هذه المرّة، لن يترك «حزب الله» حليفه الأكبر وحيداً.
سارع برّي والقريبون إلى كشف بعض جوانب المرحلة: إنتخابات وفق قانون 1960 (طبعاً لا داعي للتذكير بأنّ برّي هو المرشح الأوحد لرئاسة المجلس المقبل) وتعاطٍ حازم مع عملية تأليف الحكومة الأولى، التي قد تستغرق 5 أشهر أو 6، أي حتى موعد الانتخابات النيابية على الأرجح.
هذا يعني ما يأتي: الحليفان الشيعيان اللذان سلّفا عون تسهيلات غير متوقعة مكَّنته من الفوز بالجائزة الكبرى، سيواجهانه بالقول: نحن مرتبطون بالتحالف معك، والوفاء لك، ولكن ليس للذين تعاونت معهم من خارج حلفائنا.
وعلى الأرجح، سيُسارع برّي و»الحزب» والنائب وليد جنبلاط إلى إرضاء الحليف الأوثق النائب سليمان فرنجية في الدرجة الأولى، و»سيقفون عند خاطره» قبل أن يقفوا على خاطر الحريري (الحائز أساساً على جائزة عودته إلى السراي) أو على خاطر الدكتور سمير جعجع.
بعد انتخاب عون، سيتمكّن الحريري من الحصول على تكليف برئاسة الحكومة من القوى إياها التي انتخبت عون، وربما أكثر، لكنّ المعركة ستبدأ عندئذٍ. وسيكون عون منشغلاً بتثبيت موقعه في الحكم والحكومة والمؤسسات. فهل ستكون له القدرة الكافية على دعم حليفه المسيحي الدكتور جعجع وفق ما رشح من قبل، لجهة تسليم «القوات» مواقع حيوية في الحكومة المقبلة؟
قد يعاني الحريري في السراي، وقد يجد جعجع صعوبة في الحصول على المكافأة التي استحقها بتبنّي عون. والحق يُقال أنه لولا موقف جعجع لما كان ممكناً إقناع الحريري بتبنّي ترشيح عون أيضاً، ولكان صعباً وصوله إلى بعبدا.
وهكذا، يبرز السؤال: إذاً، مَن سيدفع ثمن انتصار عون بوصوله إلى موقع الرئاسة؟
القراءة الباردة هنا توحي بالآتي:
1- عون نفسه سيدفع في الدرجة الأولى بقبوله لقانون 1960، وربما لتقليص في الحصص داخل الحكومة.
2- الحريري سيكون أمام تحدّي العودة إلى مظلّة «التحالف الرباعي» المذهبي، والحصول على المكاسب من خلاله.
3- فرنجية دفع من فرصه لبلوغ القصر حالياً لكنّ تعاطيه المرن ربما يجعله الأوفر حظاً بعد «الجنرال» لدى حلفائه. وفي أيّ حال، سيحصل فرنجية ربما على جوائز ترضية في الحكومة والمجلس لتعويض عدم اختياره رئيساً.
4- القوى المسيحية في «14 آذار»، ولاسيما «القوات اللبنانية» ستجد نفسها أمام خيارات مربِكة. فعون سيكون منشغلاً بالدفاع عن مواقعه، والحريري سيحتمي بـ»التحالف الرباعي» لتحصيل ما أمكن. فهل تشارك هي في الحكومة الحريرية المقبلة إذا لم تقتنع بالحصة، أم تفضّل المقاطعة كما هي اليوم في حكومة الرئيس تمام سلام؟
الجميع يستعدّ لمعارك ما بعد 31 تشرين الأول، لكن هناك مَن يمتلك أسلحة المواجهة وهناك مَن سيواجه باللحم الحيّ، كما فعل دائماً.