لا يشك عاقل في أن ذهنية الوصاية مسألة بنيوية في الكيان اللبناني، عطب جيني في لبنان – الكائن. لا بل هي عندنا هذا النوع النادر من العطوبات الخلقية، الذي يولد مع صاحبه، ثم تزيده طبيعة الأخير وبيئته وسلوكياته تفاقماً وتدهوراً وتطوراً جينياً ممانعاً لأي علاج أو دواء. هكذا ولدت الوصاية عندنا، كفكرة وكواقع، مع نشوء لبنان منذ القرون الوسطى، مروراً بالإمارة، وصولاً إلى اشكال الدويلة في القائمقاميتين والمتصرفية، انتهاء بلبنان الكبير.
والأهم أن كل مراحل نمو تلك الدولة لاحقاً، جاءت لتزيد وطأة الوصاية في جينات سلوكياتنا السياسية ونمطياتنا الاجتماعية. فتضاعفت عوارض الوصاية وتوالدت مُتأمة، على عدد سياسيينا وطامحي شأننا العام، وعلى عدد مستنسخي نموذج المقاطعجي من أيام السلطنة إلى زمن كل سلطان. يراهن أحد الباحثين «الخبثاء» أن الأمين العام للأمم المتحدة قد يعجز عن تسمية رئيس وزراء باكستان أو رئيس جمهورية أفريقيا الجنوبية أو وزير خارجية إيطاليا. لكنه قادر بالتأكيد على تعداد نصف وزراء حكومة لبنان في أي عهد كان، وعلى سؤالك عن زعماء طوائفنا بالاسم واحداً واحداً. يساعده على ذلك طبعاً أن بعضهم لم يتبدل إلا اسمه الأول منذ قرون. والرهان نفسه ممكن بشكل معكوس: ترى، ما هي نسبة المواطنين في أي دولة في العالم، ممن يعرفون اسم سفير واشنطن مثلاً في بلادهم؟ الجواب حتماً لا يزيد عن الصفر مع بضعة اصفار بعد الفاصلة. بينما يمكن لأكثرية اللبنانيين أن يستذكروا أسماء سفراء العم سام عندنا، منذ أجيال سبقتهم وحتى العزيز جيفري على الأقل!
هل هي ثقافة عامة؟ حب اطلاع أو سعة معرفة أو رحابة آفاق فكرية؟! بل هي ذهنية الوصاية الموروثة في الشخصية القاعدية لمكان سُمي وطناً، في الوجدان والمتخيل والذاكرة. ومن ثم المستدخلة والمستبطنة والمبلوعة بوعي ولا وعي ودِربة إذعان وذل وخضوع وخنوع، عند غالبية سياسية ساحقة. وصاية تقتضي الأمانة التاريخية الاعتراف بأنها تطورت مع مرور الزمن فواكبت الحداثة والعصرنة. في زمن الوصاية العثمانية – التي لم تدم قروناً بالمصادفة أو لسياقات إقليمية، بل نتيجة طواعية طبقة سياسية داخلية بلدية جداً أيضاً – في زمن وصاية السلطنة، كانت رتب التبعية لدى الوصي من نوع «شيخ» و«بيك» و«باشا». بعدها تقدم الزمن، فتطور «جارغون» الوصاية عندنا. حتى أننا في زمن الوصاية السورية – والتي للأسباب نفسها كذلك دامت عقوداً ثلاثة – صارت رتب التبعية عندنا مستقاة من قاموس الدولة الحديثة: نائب ووزير وصاحب دولة وفخامة. واكبت وصايتنا العصر شكلاً. وظلت طبقتنا السياسية تابعة موصى عليها بالمضمون والعمق والعقل أو اللاعقل.
حتى جاء زمن السيادة. زمن الاستقلال الثاني – قال. زمن الحرية المنتزعة بدماء الشهداء، والنضال المدموغ بمعاناة الآلاف، والقرار الحر المستحق بعذابات شباب وشابات. مع فجر ذلك الاستقلال، كان لبنان على موعد مع انتخابات نيابية ربيع العام 2005. وكانت أيام اغتيالات سياسية دنيئة، وتفجيرات عشوائية مجرمة، وترهيب وترويع وتهديد وتهويل. يومها طرح بعض أبطال الاستقلال الثاني، من أصيلين وتايوانيين، فكرة تأجيل الاستحقاق النيابي بضعة أسابيع. أو حتى التمديد تقنياً للمجلس النيابي، خصوصاً بعدما تم تخطي المهل القانونية لإجراء الانتخابات. وكانت الغاية من الطرح إفساح المجال لكل اللبنانيين، خصوصاً لضحايا زمن الوصاية من منفيين ومعتقلين ومسحوقين، للمشاركة في الانتخابات الأولى للاستقلال الثاني. بما يؤمن تكريس المصالحة اللبنانية اللبنانية، أساساً راسخاً لذلك الاستقلال. لكن سفراء الوصاية، ولحسابات غير لبنانية، قرروا أن لامجال للتأجيل يوماً واحداً، ولا حتى ساعة. حتى ذاع يومها شعار «وصاية الاستقلال» الشهير: الانتخابات الآن، إلكشن ناو!
بعد عشرة أعوام، تكرر المشهد. حديث عن احتلالات بالجملة، في العقول والنفوس. كلام عن ثورات وسيادات واستقلالات آتية. ووسط كل تلك الفوضى البروباغاندية، جاء موعد الانتخابات النيابية. وجاء في ظروف أمنية افضل بكثير من ظروف 2005. لا اغتيالات. لا تفجيرات. «داعش» البقاع مضبوطة بدقة بفضل وسيط خليجي من «أصحابنا». «نصرة» الشمال استئصلت في غضون ساعات، ولو بثمن باهظ من عسكرنا الباسل، ولو من دون جثة مضبوطة لإرهابي ولا مدفونة سراً كما قتلى التنسيقيات… المهم أن كل شيء مؤات لتداول سلطة. للتعبير عن رأي الشعب. لرفع الصوت وإسقاطه في صندوق عل مأزقاً يسقط أو يصير الصندوق وأداً لأزمة. في هذا الظرف بالذات، قرر الوصي أن لا مصلحة له بحصول انتخاباتنا. وافقت طبقتنا السياسية نفسها. لكن الأكثر وقاحة أن الوصي نفسه، وصي انتخابات العام 2005 ونظرية المومنتوم والإلكشن ناو، وقف هو نفسه ليعلن بلسان ديريك بلامبلي، رضاه عن إلغاء انتخاباتنا وسروره بضرب حرياتنا وربما حبوره بقتل ما تبقى من ديمقراطيتنا. إلكشن ناو سنة 2005. إلغاء انتخاباتنا «جنّب لبنان فراغاً اضافياً خطيراً في مؤسسات الدولة» كما قال الوصي الدولي سنة 2014. تغيرت اللغة. تبدل الموقف. لكن ثمة ثابتتان لم تتبدلا: الوصاية وأتباع الوصايات.