أشار المايسترو بعصاه الموسيقية إلى الجوقة للبدء في عزف السمفونية القديمة، التي تذكّرنا ببعض لحظات بيتهوفن، أو بأناشيد النصر الإلهية لتُشارك الأصوات الجماعية، في إكمال مقطوعة المايسترو «العنيفة» بسيل من الصراخ، والتهديد والوعيد، وشتم كل الرموز والمقامات الدينية والدنيوية، من البطاركة إلى المطارنة، إلى الزعماء، مُفرداً لكل زعيم ما يستحقه من «سماع» وتطريب. المايسترو هو السيد حسن نصرالله، بميلوديات العزلة التي يعيشها. ثم تقدّمت جوقة الشتّامين كالكورس في المسرح الأغريقي، بأصواتها وملابسها ولهجاتها، التي لم تبدأ بقرع الصبابيط على الطاولات، وبإفراغ كلمات التخوين، والسباب، فقط على الخصوم الأحياء، أقصد تيار «المستقبل» وسعد الحريري، بل بنبش قواميس رستم غزالة القديمة المشروخة، وصولاً إلى الرئيس الشهيد رفيق الحريري. عود على بدء!.. وإذا كان المايسترو، السيد حسن نصرالله منذ أول الاستشارات الوزارية لتأليف الحكومة التي كُلِّفَ تأليفها الرئيس سعد الحريري، بعدما حلّ مختلف العقد، فإذا كان المايسترو شمل بخطابه الخشبي الرنان، والصيّاح، ولم يوفّر أحداً ممّن عارضوه بلعبة «الساحر» الذي يُخرج من قبعاته وأكمامه الأرانب والدجاج، فإن الجوقة حصرت نصوصها بسعد الحريري وصولاً إلى والده (أربعة من عتاولة حزب الله متهمون بقتله، وهم القديسون الأبرار): ترهيب الجميع لم يكن بمردود سوى مفرقعات أطفال. إنه صراخ ديكة ترقص مذبوحة من الألم، فاستدرك المايسترو بعد صحوته من هيبة الجلالة، ونظر إلى عصاه فرآها مكسورة.
شتائم، تطاولات، عنف، ضجيج، أدّاها كلها «رُسُل» رستم غزالة، من دون إدراك أي هدف، ومنذ متى كانت الشتائم تقنع مَن يؤمن بمواقفه؟ فالرئيس الحريري احتفظ بهدوئه، وبإيجازه في التعبير «يا جبل ما تهزّك أفاويه أرانب ودجاج»: «الحكومة جاهزة عند الرئيس عون، وننتظر أن يقدم حزب إيران أسماء وزرائه العتيدين». لكن صمت الحريري استفز الجوقة، من نعيم قاسم، كيميائي الخراب، إلى وئام وهاب (المتنقّل في أدواره من هنا إلى هناك)، من دون أن ننسى حسن فضل الله، وصولاً إلى محمد رعد.. على أن تأتي أدوار الآخرين من المرتزقة، وتظهر على تلفزيون «المنار».
كأنك تسمع أغاني قديمة، أو تشاهد أفلاماً متكرّرة شاهدتها على امتداد هيمنة الوصاية السورية، والاحتلال الإيراني المقنّع.. فالحزب الذي اعتاد «الانتصارات» الوهمية في معظم مراحله، ها هو، وحتى الآن، يُسجّل انتصاره في مستويات الشتائم، والسفاسف، والنبرات السوقية، التي لا تليق سوى بالذين يُحرَّكون بالريموت كونترول أو يُوجَّهون «كالرجل الآلي» (على حد تغريدة النائب السابق وليد جنبلاط).
والغريب، أن الحزب وحده يحمل أكداساً من القش يسميها انتصارات المقاومة المزعومة في سوريا، بل جوقته، التي تشعر أيضاً بالانتصار! فالانتصار عدوى! وفيروس. ومرايا مكسورة للمصابين بجنون العظمة (ميغالومانيين): وهذا الإرث يجيء من مختلف مراحل الميليشيات السابقة التي تبنّى مساراتها «حزب الله»، ليكون الأسوأ، والأخطر، والأكثر ارتهاناً للخارج. جوقة بشار+ جوقة خامنئي: انتصار محور المقاومة!.. وهذا الانتصار مُنتظر عند هؤلاء، فقد فازوا أعداداً في الانتخابات النيابية، وها هم يقرعون طبول الظفر والغلبة.. بتعطيل تأليف الحكومة: فالتعطيل هو إنجاز أيضاً، كالشتيمة، والتطاول، وتخريب الاقتصاد، وعرقلة الإصلاح الذي من المُفترض أن تقوم به الحكومة، بمساعدة «مؤتمر سيدر».. إنها لفرصة عند المايسترو، أن يُعاقب لبنان مقابل عقوبات أميركا على أربابه ومموّليه (700 مليون دولار سنوياً)، وعلى الحزب نفسه. فكيف لا نعاقب «وطننا» اقتصادياً وسياسياً وإيراننا مهدّدة بالعقوبات؟ التماثل عميق! لكنه ليس بجديد: فقد سبقه في ذلك عملاء الوصاية السورية: عند كل إنجاز للشهيد رفيق الحريري، كانت تطلّ أبواق آل الأسد لتشوهّه: من المطار، إلى المدينة الرياضية، إلى الجامعة اللبنانية، فإلى إعمار الوسط التجاري، الذي تمّ بعدما تحوّلت المنطقة إلى ركام بسلاح الميليشيات السابقة، ولأنه ورثها، فيحق لـ«حزب الله»، وفاءً لها، أن يكمل رحلة التخريب. ونتذكّر كتاب «الأيادي السود» الذي جمع مواده المزيفة بعض القامات «الأمنية» المعروفة.. وصدر بتوقيع أحد مخبري النظام السوري. فمشكلة «حزب الله» المستعصية التي باتت عضوية مغروزة في جينات «أباطرته»، أنه لم يحقق منذ ثلاثين عاماً أي إصلاح، أو إنجاز لبلده، سوى حروب ينفّذها بأوامر خامنئي وتعود بالخراب على لبنان: فـ7 أيار، كانت غزوة لوسط المدينة، احتله الحزب وبعض «حلفائه» وحولوه ساحة لبيع الشاورما والفلافل، والبطيخ والمجدرة. ليشوّهوا معالمه باعتباره «إنجازاً» لرفيق الحريري. وحرب 2006، المفاجئة، أعلنت «بتوكيل شرعي» من إيران، فخسر لبنان المعركة وأعلن الحزب فوزه. فالمهم ما يحققه الحزب لإيرانه، لا للبنان، الذي يشعر هذا الحزب بغربة عنه، وعن تاريخه، وهويته، واستقلاله، واقتصاده.. وناسه.
التحرير التابع
فكيف يمكن حزباً «محرّراً» أن يكون تابعاً؟ إنها لمفارقة قلّما عرفها التاريخ. وكيف يمكن حزباً يُشارك في الحكومة وبعد انتخابات نيابية، أن يتجاوز الدستور؟ وكيف يمكن حزباً بنى مجده على مقاومة إسرائيل، أن يشارك إسرائيل في إنقاذ بشار الأسد؟ ألم يقرأ أو يسمع ما صرّح به نتنياهو وبعض رؤساء أركانه وضباطه: «سقوط الأسد كارثة على الكيان»؟ غريب! بل السؤال المهم كيف تمكّن الحزب من الانخراط في الحرب ضدّ الشعب السوري بآلاف المقاتلين، ولم يفكر أن «العدو» قد يستغل ذلك ويقوم بعدوان على لبنان والجنوب؟ ومَن الذي طمأنه أن «إذْهب وبالك مرتاح»؟… أكثر: أهذا ما جعل الحزب يصرّح وهو في جوار جولان سوريا «إن إسرائيل ليست من أولوياتنا». قاصداً أن حربه (أو أولويته) موجّهة ضدّ الثورة السورية، والمشاركة في ارتكاب مجازر جماعية، وتهجير نحو عشرة ملايين معظمهم عرب سُنَّة، وتدمير منازلهم، بهدف إحداث تغيير ديموغرافي لمصلحة الأقلية المذهبية لبشار الأسد؟ فالشعب السوري هو العدو (كالشعبين اليمني والسُنَّة العراقيين)، (وكذلك اللبناني!). وإذا عُدنا إلى خطابه الطنان الأخير، عندما هاجم أكثرية الشعب اللبناني، أليس ذلك خطوة أو إعلان حرب عليه شبيهة بإعلانه الحرب على بعض البلدان العربية!. بل ونسأل: لماذا لم يذكر الحزب مزارع شبعا (وتحريرها) عندما قام باستجرار العدو عام 2006 لحرب دمّر بها ما دمّر من المصانع والجسور والمحطات الكهربائية، والقرى؟ وماذا حرّر في حربه (أو لا تُقاس الانتصارات باسترجاع الأراضي)، أم أن الانتصارات محصورة بالحزب، (خسر حافظ الأسد الحرب عام 1967 وكان وزيراً للدفاع، وسحب جيشه قبل وصول الجيش الإسرائيلي) ليعلن (كما أعلن الحزب): فشل إسرائيل في إسقاط النظام؟ إذاً، كأنه يقول «انتصر الحزب فليذهب الجولان إلى الجحيم». إنه منطق واحد بمناسبتين مختلفتين. رائع!
.. واليوم
اليوم، وما زال الحزب يُعلن انتصار المقاومة وإيران في سوريا، وكلنا يعرف أن المنتصر الوحيد فيها هو بوتين الذي يتولى التفاوض عن سوريا.. وعن مصيرها، وعن دستورها.. وباسم هذا الانتصار يسمح لنفسه اليوم باحتقار كل اللبنانيين (كما احتقر 80 في المئة من السوريين). لكن السؤال أيضاً: إذا كان الحزب ما زال «مقرّراً» بالدم والروح محاربة إسرائيل فعلاً (وليس تكرار تجربة الجولان كما هو بات جلياً في ممارساته)، فمن البديهي أن يمتّن الوحدة الوطنية حوله (كمقاوِم)، لا أن يشرذمها! وهو يجمعها ضده! لكن نظن، أن خطابه الأخير الذي يصبّ في هذا الاتجاه، يعني أولاً وأخيراً، أن كل بنود وقف النار في الجنوب بعد حرب 2006 (خصوصاً) ما زالت سارية بينه وبين إسرائيل، (سريانها مع آل الأسد والعدو في الجولان منذ عام 1974)، وكأنها اتفاقية دائمة تكون فيها الحدود الجنوبية هادئة، وتصبح من شدّة هدوئها كأنها الحدائق العامّة التي تغرّد فيها العصافير، بل كأن الإعلان الدائم عن امتلاكه صواريخ تصل إلى العمق الإسرائيلي، ليس سوى تغطية لهذا السلام مع العدو. فلا نظن أن فريقاً يريد أن يحارب عدواً، يفصح عن أسلحته أو أقواها وأكثرها تدميراً. وإلا أين المفاجأة، التي تستخدمها الدول في مثل حالات الحروب؟
نحن نعيش، مع آخر عناقيد الميليشيات، ما عشنا مع هذه الأخيرة: محاولة إلغاء «الخصم»، والجهاد من أجل إبقاء الشعب اللبناني في حالة صراع مع بعضه؛ وكذلك ما انتظرناه من مفاجآت كانت تفجرها هذه الميليشيا أو تلك، بأوامر من مموّليها، وداعميها، ومستغلّيها. لكن حزب إيران، من أكثر «مفجّري» المفاجآت: لا يركن على رأي، أو وعد أو حتى توقيع.. حتى يتنكّر له: والسبب تلقّيه أوامر من الخارج، أو تماهيه ببعض صراعات هنا أو هناك تخوضها إيران. وإذا راجعنا تاريخه نتساءل ماذا ربح لبنان من كل حروبه وانتصاراته؟ لا شيء سوى الخسارة، وما يستتبع ذلك من افتعال أزمات، تجعل هذا الشعب يشعر بعدم الأمان، وبعدم الاستقرار، والقلق من مصير بلده، والخوف مما يخبئه الآتي. وليس المهم أن تتعلق المسألة بحدث كبير، أو بحرب جامحة، بل يمكن أن يستخدم الحزب ذريعة أقل أهمية ليعيد البلد إلى زمن 1975 بل إلى زمن ما قبل الاستقلال: مثلاً مسألة شبكة الاتصالات الخاصة بالحزب جرّته إلى إعلان حرب على أكثرية الشعب، في 7 أيار.. أو مسألة أخرى تتعلق بإيران مباشرة، بضرورة إسقاط حكومة سعد الحريري، بالقمصان السود، والتهديد والترهيب.. اليوم يُخرِج الحزب من أكمامه قضية توزير أحد نواب السُنَّة المنتمين إليه أو إلى بشار، ليفسح المجال أولاً، لتدشين عودة الأسد إلى لبنان، (حاول العودة بمتفجرات ميشال سماحة التي اكتشفها الشهيد وسام الحسن ودفع حياته ثمناً)، ثم لتقزيم الرئيس الحريري في الحكومة. من خلال أن يؤخذ الوزير «البشّاري» من حصته، ثم القول علناً أو مداورة، إننا نحن ربحنا الانتخابات، ولنا الكلمة الفصل، لا لنحكم فقط، بل لنكمل تغيير الدستور والنظام والأعراف، ونمد أيدينا أكثر فأكثر لقرض المؤسسات الرسمية والسياسية، ثم، والأهم، إيجاد معادلة بين العقوبات المفروضة على إيران، وعقوبات تفرضها على لبنان، للضغط على أوروبا أو على أميركا، فنشارك في هذه الحرب مشاركتنا في حزب إيران كلها من لبنان إلى اليمن، فالعراق فسوريا.
لكن نظن، برغم كل شيء، أن طموحات الحزب مهما نُفخت باتت محدودة في أمكنتها ومساحاتها وغلوها: تقزّمت استراتيجية إيران بالهيمنة على بعض الدول العربية، تحت شعار «الهلال المذهبي» (أي المنحى الهجومي) إلى «هجوم دفاعي»، بعدما انكسر الهلال الزجاجي على رؤوس إيران و«حزب الله»، ولم تبق له سوى تفاصيل يجهد في تكبيرها، وتعظيم أحجامها تعويضاً عن هزائمه.
صحيح أن الحزب قادر على إلحاق الأذى بلبنان (وسبق أن فعلها)، إلاّ أن الصحيح، أن الفضاءات ضاقت حوله، وكأنما، في المحصلة، عاد إلى حجمه الميليشيوي المحصور ببيئته، مجرّد ميليشيا ما زالت متمسّكة بارتهانها بإيران لا للدفاع عن هذه الأخيرة فقط، بل للدفاع عن آخر متاريسها في لبنان.
فإذا كان السيد حسن نصرالله، يستنفر ما يستنفر من هؤلاء المرتزقة، ليوجّهوا سفاسفهم إلى الرئيس الحريري ووالده، فنسأله: فيا سيد حسن نصرالله أهذا كل ما تبقّى لديكم! أهذا كل تراثكم تضعونه في أفواه هؤلاء الأنفال الذين لا وزن لهم ولا احترام؟