كانت الأمور واضحة منذ البداية في أنّ التوتر التركي ـ العراقي حول معركة الموصل ضد تنظيم «داعش» هو في الأساس توتر تركي ـ إيراني وتركي ـ أميركي بسبب شعور أنقرة بأنّ تحالفاً جديداً يُبنى على حسابها في العراق بين واشنطن وطهران بعد الاتفاق على النووي الإيراني الذي أطلق يد القيادة الإيرانية في كثير من المناطق رداً على حال «التمرد» التي تبديها تركيا وعدد من العواصم العربية والإسلامية حيال مساومات وصفقات إقليمية تُجرى على حسابها في لبنان وسوريا واليمن والعراق تحديداً.
وكان واضحاً ايضاً أنّ تصعيد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ضد تركيا وضرورة سحب قواتها من مخيم بعشيقة في الموصل هدفه ترجمة هذه الرغبة الاميركية ـ الايرانية، وهو الذي يعرف أكثر من غيره تفاصيل دخول الوحدات التركية وعددها ومهمتها الاساسية، هو إخراج تركيا من المعادلة العراقية تماماً وضرب التقارب القائم بين انقرة واربيل الذي يزعج كثيرين وتعطيل مشروع دعم حكومة «العدالة والتنمية» التركية للقوى السنّية في ثاني أكبر مدينة عراقية تهدّدها سيطرة مجموعات «الحشد الشعبي» الشيعية الميول والنفوذ على مدينة سنّية تُعتبر الرمز المتبقي لسنّة العراق بعد إضعافهم وشرذمتهم منذ عام 2003 تاريخ الدخول الاميركي الى العراق.
المسألة كانت أبعد من أن تكون مسألة حماية واحترام سيادة العراق ووحدة اراضيه وحدوده الدولية المعترف بها، لذلك تصلّبت تركيا في مواقفها على رغم كلّ الضغوط الاميركية ضدها وانحياز واشنطن العلني الى جانب العبادي في هذه المواجهة التي تهدف الى الانتقام أميركياً من حكومة رجب طيب اردوغان لتنفيذها عملية «درع الفرات» من دون التنسيق معها ورغماً عنها، فعطلت مشروع التمدّد الكردي وربط الكانتونات في شمال سوريا بعضها ببعض وارجأت حلم الفدرالية هناك الى ربيع آخر.
لقاء لوزان الاخير الذي كان الموضوع السوري محور النقاش الرئيسي فيه يبدو أنه نجح في حلحلة التأزّم التركي ـ العراقي مع مشاركة القيادات التركية والعراقية في الاجتماع، حيث أبلغت انقرة الى واشنطن، وكما قال اردوغان، علناً مطالبها واقتراحاتها حول خطة تحرير الموصل ومنها تمسّكها بعدم سحب جنودها من هناك قبل انتهاء العمليات وإعادة المدينة الى سكانها الأصليّين وعدم اشراك مجموعات «الحشد الشعبي» في عملية اقتحام الموصل ورفض أيّ دور يجرى الحديث عنه في اشراك مجموعات تابعة لتنظيم «حزب العمال الكردستاني» وضرورة أن تلعب قوات «الحشد الوطني» التي درّبتها تركيا والمشكلة من وحدات تركمانية وسنّية ومن العشائر دور مباشر في العمليات جنباً الى جنب مع وحدات البشمركة الكردية.
لكنّ المؤكد ايضاً هو أنّ كلّا من واشنطن وبغداد وطهران تلقّت رسائل البيان الختامي للقمة التركية ـ الخليجية الاخيرة المنعقدة في الرياض والتي عبّرت عن تضامنها الواضح مع انقرة في سوريا والعراق، ولم تتردّد في تحذير ايران من نتائج سلبية لسياساتها الاقليمية وتدخّلها في شؤون الدول العربية، ودعوة واشنطن الى مراجعة مواقفها في التعامل مع الملفين العراقي والسوري اللذين باتا يهدّدان بشرخ اكبر في المنطقة.
الرئيس التركي الذي حمل رئيس أركانه خلوصي أكار التصوّر التركي الى واشنطن لطرحه ومناقشته في اجتماعات رؤساء اركان حلف شمال الاطلسي (الناتو) كان له الثقل الآخر تماماً، كذلك فعل وزير الخارجية التركي مولود جاويش اوغلو على جبهة لوزان في إقناع واشنطن بتعديل مواقفها وإلزام بغداد بالتعامل بجدّية مع المطالب التركية التي كانت تطرح الخطط البديلة في سيناريو الموصل إذا ما شعرت أنقرة بأنّ الامور تتقدّم بعكس ما تقوله على الارض.
آخر المعلومات الواردة من انقرة تقول إنّ مساعد وزير الخارجية التركي السفير احمد يلدز يستعد لزيارة بغداد في الايام المقبلة وإنّ النقاش سيتركز على ازالة الخلافات بين البلدين، خصوصاً في موضوع وجود القوات التركية في الموصل، لاسيما بعدما تخلّت بغداد عن تهديداتها بالتصعيد الاقليمي والدولي والتحرك العسكري المباشر كخيار يتمّ اللجوء اليه لإخراج الجنود الاتراك من بعشيقة ومسارعة أنقرة للإعلان أنها جاهزة للرد على أيّ تصعيد عراقي.
أنقرة يبدو أنها حصلت على ما تريد، ليس فقط في ضمانات قدمت حول عدم ادخال «الحشد الشعبي» الى الموصل، بل في مشاركة اميركية عسكرية مباشرة في العمليات لضمان سلامة سير الخطة المتفق عليها ولكي تتحمّل واشنطن المسؤولية المباشرة عن أيّ انتكاسة او خلل في سيناريو تحرير المدينة وعدم المساس ببنيتها الديموغرافية والعرقية والمذهبية.
شريط الفيديو المصوَّر الذي قدمته أنقرة لبغداد بالصوت والصورة حول زيارة وزير الدفاع العراقي السابق خالد العبيدي لمخيم بعشيقة والاشادة بالمجموعات التي تدرّبها تركيا هناك ونقل تحيات رئيس الوزراء العراقي الى الجنود، ثمّ إلحاقه بشريط آخر ينقل مطالب العبادي نفسه في ضرورة دعم تركيا للعراقيين في عملية تحرير الموصل والعراق من تنظيم «داعش» خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره السابق احمد داود اوغلو وتمسّك تركيا بأنها جزء من التحالف الدولي في الحرب على «داعش» وهي أثبتت ذلك عملياً عبر المشاركة في التأسيس والتنسيق وفتح الطريق امام قوات «البشمركة» الكردية للوصول الى مدينة كوباني ـ عين العرب لمحاربة «داعش» ثمّ دورها المباشر في عملية «درع الفرات»، كلّ هذا ساعد على إقناع الحكومة العراقية بتعديل مواقفها أمام الإصرار التركي على إبقاء الوحدات هناك الى أن تنتهي مهمتها.
بغداد التي كانت تقول إنّ سُنّة العراق قبل شيعته يطالبون بمغادرة الجنود الأتراك ستراجع مواقفها حتماً عندما ترى ممثلي عشائر محافظة نينوى العراقية ينتقدون مواقف الحكومة المركزية في بغداد تجاه تركيا، معبّرين عن امتنانهم للجهود التركية المبذولة لتحرير المدن العراقية من وجود تنظيم «داعش» الإرهابي، رافضين في هذا الصدد مشاركة الميليشيات الشيعية في تحرير مدينة الموصل.
وفي الوقت الذي كان العبادي يعلن انطلاق العمليات العسكرية في الموصل كان ممثل الرئيس الاميركي في عمليات التنسيق لمحاربة «داعش» يبعث بتغريدات متمنّياً النجاح لوحدات «الحشد الوطني» السنّية التي جهّزتها تركيا في دورها بمحاربة داعش في الموصل، كان وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر، يعلن عن شكره لتركيا لدورها الكبير في تحرير قرية «دابق» في ريف حلب الشمالي من قبضة «داعش»، وكان كثير من السياسيين الاتراك يتمنّون الالتزام بخطة تحرير الموصل المتفق عليها بين انقرة وبغداد وواشنطن واربيل وأن لا تتمّ مناقشة الخيارات البديلة التي تحدّث عنها أردوغان من دون أن يكشف طبيعتها، وذكر لاحقاً أنّ احتمال مطالبة اربيل والعشائر السنّية العراقية بتدخل عسكري تركي مباشر هي في مقدمها، وأنّ تعزيزات عسكرية تركية تحرّكت صوب خط الحدود التركي ـ العراقي، وأنّ حصان طروادة الحكومة العراقية في معركة الموصل «الحشد الشعبي» لن يلعب دوراً اساساً مباشراً في المعارك.