لم يكن هناك بدّ من «الردّ الاسرائيلي» على «الضربة الايرانية» التي استهدفت إسرائيل فجر الأحد الماضي بمئات الصواريخ التقليدية والبالستية والمسيّرات. فكل التقارير الديبلوماسية والاستخبارية تحدثت عنها بنحو حاسم. ولم يكن هناك نقاش سوى بما يعني شكلها وتوقيتها. ولذلك جاءت لتلغي معظم السيناريوهات التي تمّ تداولها، وأبرزها القيام بضربة كبيرة في لبنان او استكمال التحضيرات لعملية رفح. فإذا بها كلها ما زالت قائمة. وعليه كيف يمكن تفسير هذه المعطيات؟
ما بين الأول من نيسان وليل الثالث عشر – الرابع عشر منه، امتدت المهلة التي تحدثت عنها طهران للردّ على مقتل كبير ضباط الحرس الثوري الايراني قائد «فيلق القدس» في سوريا ولبنان محمد رضا زاهدي ومعاونيه المستشارين الستة، بعدما مهّدت له بحملة ديبلوماسية وشعبية داخلية ودولية قدّمت خلالها إيران عدداً من الإقتراحات التي رفضت واحدة بعد أخرى، وعلى مختلف مستوياتها، ومنها تلك التي كانت تعني مجلس الأمن الدولي كما واشنطن والدول المعنية بالنزاع في المنطقة.
وبخلاف ما اعتمدته إيران تسويقاً لضربتها من أساليب ديبلوماسية وإعلامية دعائية، شملت قناة التفاوض مع الاميركيين المتمثلة بسلطنة عمان او عبر السفارة السويسرية التي ترعى المصالح الاميركية في ايران منذ قطع العلاقات بين الدولتين، مضافة الى القناة التركية التي تولاها الرئيس رجب الطيب اردوغان ومعه أمير قطر، فقد أبقت اسرائيل قناتها الاستشارية محصورة ومفتوحة مع واشنطن دون سواها. فهي المؤهلة وحدها لإعطاء الإذن ورفدها بحاجتها من الأسلحة على مختلف أصنافها، عدا عن الدعم الديبلوماسي غير المحدود الذي لا يمكن التردّد فيه، بمعزل عن العلاقات الشخصية المتردية الى ما دون الصفر بين الرئيس جو بايدن ورئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو.
وعلى رغم من العطف الدولي الذي استعادته تل ابيب بنسبة كبيرة بعد الضربة الإيرانية التي فرملت مسلسل برامج ومواقف الإدانة التي تعرّضت لها نتيجة المجازر المرتكبة في قطاع غزة والضفة الغربية، ومنعها من استكمال العملية العسكرية المقرّرة في رفح، فلم تستجب لأي من النداءات والمناشدات الدولية التي تلقّتها لمنع التصعيد المؤدي حتماً الى الحرب الكبرى. وعليه، فقد اتخذت قرارها بالردّ على خلفية القول «العين بالعين والسن بالسن»، وتحت سقف الهوامش والمعايير الأميركية التي رسمتها بطريقة تشبه الى حدّ بعيد ما انتهت اليه العملية الإيرانية «المضبوطة» وقواعد أخرى لم تعد خافية على أحد.
وعلى رغم من حجم وكثافة النيران التي استخدمتها طهران في العملية وما رافقها من تعطيل لحركة الملاحة المدنية في فضاء الدول التي عبرتها صواريخها ومسيّراتها، فلم يتوصل أي طرف بعد الى تحديد نوعية الاسلحة التي استخدمتها اسرائيل في العملية. وما هو ثابت انّ اياً من دول العالم كانت على علم بها، لفقدان ما يشير الى ما يشبه المهلة التي اعطتها إيران للعالم أجمع قبل انطلاق صواريخها من أراضيها. ولذلك ما زالت الروايات المتعددة قائمة في شأن الاسلحة التي استخدمتها تل ابيب. ذلك انّ الدول التي يمكن ان تشهد سماؤها مساراً لأي عمل او حراك عسكري لم تقل اي كلمة بعد بشأنها، ولم تتحدث عن اي خلل او متغيّرات اصابت المسارات العادية في فضاءاتها.
وتزامن كل ذلك، مع بقاء التحقيقات الإيرانية غامضة في هذا الشأن، وهي التي اكتفت بالإعلان عن تصدّي دفاعاتها لأشكال عسكرية مشبوهة عبرت سماء البلاد في اتجاه القواعد العسكرية القريبة من مدينة أصفهان، وقد تمّ اسقاطها او تعطيل مفاعيلها. وهو ما يبرّر استمرار الحديث غير المحسوم عن استخدام طائرات مسيّرة أُسقط بعضها في سماء تلك المناطق المجاورة للمواقع والقواعد المستهدفة. ولكن ذلك لم يحل دون الحديث عن استخدام طائرات الـ «F35» التي وجّهت صواريخها من الفضاء الخارجي للأجواء الايرانية ومن نقاط بعيدة جداً.
وإن لم يثبت أي من هذه الروايات، فانّه سيكون من الضروري اللجوء الى تخمينات اخرى، قالت إحداها باحتمال استخدام قواعد اسرائيلية سرّية لها في بلدان مجاورة لإيران. وهي رواية جديدة لم يُكشف عنها من قبل، وبقي ما يدّل اليها غامضاً جداً، في انتظار التثبت من ذلك على صعوبته. ذلك انّه ليس منتظراً ان تعلن اسرائيل رسمياً عن عمليتها، ما لم تطرأ معطيات جديدة تشكّل في حال الإقدام عليها خروجاً على التفاهمات التي قُطعت مع واشنطن بهدف منع الوصول الى تصعيد كبير لا يريده احد حتى اللحظة. ذلك انّ مثل هذه الخطوة ستفتح الطريق واسعاً امام ردّات الفعل وتلك المضادة لها، في مسلسل قد لا ينتهي قريباً قياساً على حجم ما في العقلين الإيراني والاسرائيلي من تحجّر وتصلّب قومي يتجاوز ما هو معتمد في كثير من الدول.
وإن بلغ الحديث في الأندية الديبلوماسية والاستخبارية عن التوقيت الذي اعتمدته اسرائيل، فقد شكّلت الضربة فجر امس، مفاجأة للبعض مما كان يرصده. فبعض العواصم كانت قد حسمت أمر القيام بعملية عسكرية ما، ولكنها افتقدت المعلومات الدقيقة، ما عدا ما كُشف عمّا لدى الادارة الاميركية من معطيات. ففي ظل الإنكار الاميركي عن معرفتها المسبقة بما جرى، فقد كشفت وكالة «بلومبرغ» انّ إسرائيل «أبلغت الى واشنطن اول امس الخميس بخطتها في استهداف إيران خلال يومين». وهو ما تُرجم بالقيام بها في الساعات الأولى من المهلة التي حدّدتها. ولما لم يكن متوقعاً ان تبلّغ واشنطن من تريد بما لديها من معلومات فور تبلّغها بها، توسّعت رقعة التقديرات، وتحدثت المعلومات القليلة التي أشارت إليها بعض التقارير الديبلوماسية، بأنّ الضربة ستكون في «الويك أند» الحالي الذي تلى ما سُمّي «الويك اند الإيراني». وكان ذلك قبل ان يتسرّب ما يقول انّ تل ابيب اختارت لعمليتها تاريخ ميلاد مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي لتوجيه هذه الضربة، ولم تنتظر عبور «الفصح اليهودي» كما تردّد في تقارير ديبلوماسية وإعلامية مختلفة.
و بالإستناد الى هذه المعطيات، فقد لفتت مراجع ديبلوماسية مطلعة، الى انّ عملية «أصفهان» التي استهدفت ما سُمّي مركز رادار ورصد خاصاً بقواعدها العسكرية في المنطقة ومن أجل حماية «مجمع ناتانز النووي» أسقطت عدداً من السيناريوهات اليتيمة التي نُسجت في غرف مغلقة لم يتبنّاها احد موثوق به. وهي التي قالت بأنّ إسرائيل لن تردّ الضربة في اتجاه الاراضي الايرانية، وهي نالت ضوءاً أخضر للتعويض عن تراجعها عن مثل هذه الخطوة من أجل القيام بعملية كبيرة في لبنان تتعدى جنوبه، وباستئناف التحضيرات لعملية في رفح. وبسقوطها معها ظهر انّ ما هو منتظر ما زال يحمل كثيراً من الخطورة. فالعملية نُفّذت في الداخل الإيراني اياً كان حجمها، وأنّ اي عملية في جنوب لبنان ما زالت مطروحة في انتظار ساعة الصفر، فيما العملية المقرّرة لرفح آتية لا محال ولو بعد حين.