المشكلة في النص الديني. المشكلة في المجتمعات العربية والإسلامية. المشكلة في النص وفي المجتمعات معاً. لا مشكلة لا في النص ولا في المجتمعات، بل في السعي الغربي لفرض سيطرته على المنطقة العربية.
هذه أربع مقدمات انطلقت منها أكثر النقاشات التي أعقبت جريمة «شارلي إيبدو». ثمة من حمّل الإسلام المسؤولية الكاملة عما جرى باعتباره ديناً يحضّ على العنف في آيات وأحاديث معروفة وأن القتلة تصرفوا بوحي من هذا «المحمول الثقافي». آخرون رأوا أن النصوص موجودة منذ مئات الأعوام وليس ما يفسر العودة إليها واستخدامها كمسوغات لأعمال إرهابية غير الأزمة العميقة التي تعيشها المجتمعات العربية – الإسلامية والصادرة عن تضافر الفقر والاستبداد وآثار العولمة الأحادية الجانب. الفريق الثالث لفّق بين الرؤيتين الأولى والثانية وصوّب نحو مسؤولية البنية الثقافية– الدينية في تعميم العنف داخل مجتمعات مأزومة. رابع المفسرين، أعاد كل شيء إلى التاريخ الحديث وما تركته أعوام الاستعمار وتلك التي تلته من تدمير للمجتمعات القديمة التي انتقل ممثلوها الغاضبون الى قلب الغرب، ناهيك عن المحاولات الغربية الدائمة لإخضاع المجتمعات وإذلالها.
لكل فريق نصيب من الوجاهة، ولكل مقاربة سهم من الصواب. ويصح بلا جهد كبير، تركيب صورة تقوم على الجمع بين العناصر المذكورة أعلاه والتي يمكن الاستطراد في شرحها وتفسيرها الى ما لا نهاية.
فوق المقاربات هذه، تطفو فكرة راج تداولها أخيراً: الإسلام في حاجة إلى إصلاح. فليكن. بيد أن ما يجري تعميمه من تصورات إصلاحية يفتقر إلى الدقة، وخصوصاً إلى التمييز بين حقلين من حقول الإصلاح المرجو. الحقل الأول ديني– فقهي يتجاهل دعاته أن آيات السيف وضرب الرقاب والسبي والأحاديث المشابهة وما ترويه السيرة النبوية من أجواء قتالية، لا يمكن إخراجها من المتن الديني، مقابل سهولة (نظرية وحسب، على ما تبين من محاولة إلغاء «فتوى ماردين») في التخلص من تبرير التكفير والاحتطاب وما شاكلهما، سيان في ذلك قدم الفتوى أو جدّتها.
الصعوبة الشديدة في التعامل مع فتاوى كبار الأئمة تظل أسهل بكثير من مجرد الاقتراب من متن النص المقدس.
الحقل الثاني بقوم على الحامل الاجتماعي للإصلاح الديني. السؤال البسيط الى حدود البداهة الذي يتهرب منه دعاة الإصلاح هو: لمصلحة أي من الفئات الاجتماعية يتعين أن يصب الإصلاح؟ يتأسس السؤال على حقيقة أن ما أرساه الإسلام السياسي من «الإخوان المسلمين» الى «داعش» مروراً «بالنصرة»، ينطلق من تحويل الدين إلى أيديولوجيا سياسية تدعو الى طوبى (يوتوبيا) يقيمها نظام الخلافة على الأرض. لا تختلف هذه النظرة كثيراً عن دعاوى طوباوية أرضية جربتها شعوب مختلفة على امتداد القرن العشرين وما قبله. آلة هذه الدعوة الخلاصية إسلام منزّه عن التناول البشري.
هذه الممارسة تخدم فئة اجتماعية محددة يمكن التعرف إليها من شهادات المقيمين في مناطق سيطرة التنظيمات ومن قراءاتهم للانتماءات الاجتماعية التي يأتي المقاتلون الإسلاميون منها. وعند أخذ واحدة من ممارسات هذه المجموعات، كإعدام المتهمات بالزنى على سبيل المثال (وهي تهمة يبدو إثباتها شبه مستحيل وفق القواعد الشرعية الدقيقة إذا لم يعترف مرتكبها صراحة بها)، فلا نعثر إلا على محاولة إرهاب المجتمع من خلال الانقضاض على الفئات الأضعف فيه، أي النساء اللواتي يسهل اتهامهنّ بأخلاقهن وشرفهن، وإقامة استبداد بطريركي أبوي ملتصق بتفسير أداتي للنص الديني.
هنا يعود سؤال الإصلاح الى نقطة البداية. ماذا نفعل بالنص المقدس في مجتمع مأزوم ومضطرب؟