دار الفتوى غطّت مقاومة الجماعة فحجز السّنّة مقعدهم في مستقبل القرار الاستراتيجي
منذ أن أعادت الجماعة الإسلامية تفعيل جناحها المقاوِم (قوات الفجر) مواكبة لعملية «طوفان الأقصى» ونُصرة لأهل غزة تعرّضت لجملة من التحديات وتعرّضت لانتقادات بعضُها حادّ وبعضها الآخر موضوعي، واليوم بعد مضيّ ثمانية أشهر على انطلاق هذه المواجهة برزت تطوّرات هامة جعلت قرار الجماعة أوضح من الناحية الاستراتيجية ودفعت قيادتها إلى تقديم مقاربات متدرِّجة قبل أن تتمكّن من إنضاج مواقفها من التطورات المحلية، بينما حصرت مواقفها الخارجية بالقضية الفلسطينية، ولم تنجرف في مواقف حادة أو اصطفافات بين العرب، حتى في خضمّ الاختلاف الحاصل حول دعم حركة حماس أو عدمه، وكان من تداعيات قرار تفعيل العمل المقاوِم إدارة الانضباط الجماهيري وخاصة في الأوضاع الحساسة كما حصل في بعض مناسبات تشييع شهداء الجماعة.
دار الفتوى.. مقاومة سنّية بمرجعية جامعة
أوّل التحديات التي واجهتها الجماعة كانت الاتهام بأنّها دخلت الجبهة الجنوبية تابعةً لـ«حزب الله»، وقد تلقّت هذا الاتهام من جهات عدة، منها سنية شديدة الاعتراض على الاعتراض، ومنها مسيحية سيادية لاعتبارات تتعلّق برفض منح الحزب الغطاء في خطفه لقرار الحرب والسلم، وهنا حصل تطوران هامان أكّدا استقلالية الجماعة في قرارها مع بقاء تفسيرات مشاركتها في جبهة الجنوب خاضعاً للاستنساب من كلّ طرفٍ حسب رؤيته السياسية.
التطوّر الأول: تبلور الموقف الحاسم لدار الفتوى في تغطية عمل الجماعة المقاوِم للاحتلال الإسرائيلي، وذلك بعد الضجة التي أثارها مفتي البقاع الشيخ علي الغزاوي عند رفعه البندقية كرمزٍ للمقاومة خلال تشييع شهيد الجماعة أيمن غُطمة وما صدر لاحقاً من موقف حازم من مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان في ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، يؤكّد على نصرة القضية الفلسطينية والحقّ في المقاومة، ثم الموقف العالي السقف لأمين الفتوى الشيخ أمين الكردي الذي أيّد موقف المفتي الغزاوي وأكّد استقلالية دار الفتوى عن التبعية للدول (إيران) والجماعات والأحزاب، بل هي تعبِّر عن الموقف الإسلامي والوطني في لحظة تحوّل تاريخية كبرى.
أفرز موقف دار الفتوى مشهداً جديداً على المستوى السنّي والوطني، فهو أعطى الغطاء لمقاومة الجماعة من جهة، وعلى قرار أهل السنة بالشراكة الفاعلة في ملف المقاومة.
أعاد هذا النقاش إحياء تاريخ السنّة في مواجهة المشروع الصهيوني وهذا ما لفت إليه أمين الفتوى الشيخ أمين الكردي عندما قال: «أما الآن فإنّ من يطلب من علماء أهل السنة والجماعة أن يخفِّفوا من خطابهم في دعم فلسطين، فهؤلاء من حيث لا يدرون يخدمون العدو الصهيوني كثيراً.. فلينتبهوا إلى أقلامهم ومجالسهم التي يتكلّمون فيها.. ومن يراجع التاريخ يجد أنّ علماء بيروت كانوا أول من وقفوا مع أهل فلسطين منذ النكبة عام 1948، وقبلها حمل علماء بيروت السلاح معهم، ومن هؤلاء العلماء الشيخ أحمد العجوز والشيخ محمد سوبرة والشيخ محمد الخطيب..»، وأكّد أنّ «عمائم أهل السنّة عمائم شريفة، إذا تكلّمت من أجل فلسطين تكلّمت بالحق، لسنا تحت محور ولسنا تابعين لأحد ولن نتبع لأحد فلينبه بعض من يكتب، فقضية فلسطين هي القضية الأم والقضية الأساس».
الجماعة والحزب: إستقلالية القرار واستمرار الاعتراض على التفرّد بقرار الحرب
التطوّر الثاني: لقاء الأمين العام للجماعة الإسلامية الشيخ محمد طقوش بالأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله، وقد جاء هذا اللقاء ليؤكد جملة نتائج أهمّها:
– تمسّك الجماعة الإسلامية بهويتها السنية وخصوصيتها التنظيمية ومرجعيتها الفكرية واستقلاليتها السياسية التي تفصل بين ضرورات التنسيق الميداني في الجنوب بين الحزب والجماعة، وبين التوجهات السياسية للجانبين، فالجماعة متمسكة بخطابها ومشروعها السياسي المبني على التلاقي لبناء الدولة وضرورة الوصول إلى حصرية السلاح الشرعي بيد الجيش والأجهزة الشرعية من خلال استراتيجية دفاع وطنية تنهي استفراد الحزب بقرار السلم والحرب، بالإضافة إلى انفتاحها على الحوار مع القوى اللبنانية انطلاقاً من وثيقتها السياسية «رؤية وطن» وما تضمنته من جوامع مشتركة مع هذه القوى.
يأتي انفتاح الجماعة على المكوِّن الشيعي وسط ضجيج علا في الأوساط السنية وخاصة بعد مشاركة الشيخ محمد طقوش في مجلس العزاء العاشورائي الذي ينظمه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وقد وصلت إلى قيادة الجماعة اعتراضات على أصل هذه المشاركة، بالنظر إلى أنّها تُنَظَّمُ لأهدافٍ مذهبية تتضمن خطاباً مذهبياً مثيراً للنعرات، لكنّ التدقيق في المشهد يُظهِر أنّ المجالس التي ينظمها المجلس الشيعي الأعلى تشمل شخصيات محدودة وليست جماهيرية، ويُدعى إليها نُخَبٌ من طوائف مختلفة يتحدثون عن رؤيتهم لحادثة استشهاد الحسين، بروحية ورؤية الإمام المرحوم محمد مهدي شمس الدين المعتدلة التي ترفض الخطاب المذهبي، وبرؤية المرحوم السيد محمد حسين فضل الله وقد شكّلا مدرستين مبنيّتين على الاعتدال والحوار وقبول الآخر.
ومن هنا، ورغم أنّه كان بإمكان الشيخ طقوش تقديم خطاب أكثر تمايزاً ووضوحاً، وربما تجنّب بعض المطبّات الناتجة عن هذه المشاركة، لكن لا يمكن فصلها عن توجه الانفتاح الذي يقوده الشيخ طقوش تجاه المكوِّن الشيعي كما يعمل على التواصل مع الأحزاب المسيحية، ومنها القوات اللبنانية والكتائب والمستقلين، مع الإقرار بوجود خسائر جانبية لهذه الخطوات لا يمكن تلافيها.
يحمل الشيخ طقوش عبئاً ثقيلاً نتيجة محاولته الجمع بين خيار المقاومة المسلحة ضدّ الاحتلال والحفاظ على استقلالية الجماعة والتمسك بالانفتاح والحوار مع الأطياف اللبنانية، حيث تنجذب الجماعة إلى خطابها السيادي التأسيسي وتنشَدُّ نحو توقها إلى نُصرة غزة ودعم شقيقتها حماس، وفي كلّ هذا وذاك يظهر توجّهٌ جريء في قيادتها في اتخاذ قراراتٍ كبيرة، وما انتهى إليه المشهد الآن هو أنّ الشنة شركاء حتميون في المقاومة، وأنّ مقعدهم محجوز على طاولة تقرير مصير السلاح وإعادة صياغة المشهد السياسي في البلد، يُساعد في ذلك أنّ الجماعة تطرح نفسها شريكاً داخل الساحة السنية تحت مظلة دار الفتوى وشريكاً وطنياً تحت مظلة الدولة.