IMLebanon

لبنان في صلب المعركة الجيوبوليتيكيّة

 

لا يمكن القيام بأيّ مقاربة سياسيّة في منطقة الشرق الأوسط من دون الأخذ بعين الإعتبار العامل الجيوبوليتيكي الذي يشكّل المُنطَلَق لأيّ تحليل استراتيجي كان، أو حتّى تكتيّ آنيّ. ولبنان الـ10452 كم2 فاعل جيوبوليتيكيّاً في المنطقة ككلّ، وهو متأثِّرٌ بكلّ تداعياتها عليه. ولعلّ هذه المسألة تشكّل السبب الرئيس الذي وصل إليه لبنان اليوم. فهل سيستطيع تخطّي العامل الجيوبوليتيكي إنقاذاً لما تبقّى من مقوّمات الدّولة، والوطن، والهويّة، والكيان فيه؟ أم سيكون المنطَلَق للمشاريع التي تعدُّ لهذه المنطقة؟

 

لبنان فاعل جيوبوليتيكيّاً، ولا يستطيع أيّ طرف إنكار هذه الحقيقة، مهما حاولوا تقليص الدّور اللبناني. في القضيّة العربيّة – الاسرائيليّة، بقي لبنان البلد الوحيد الذي رفض توطين الفلسطينيّين، ونصّ على ذلك بدستوره، حفاظاً على حقّ العودة للشعب الفلسطيني، ومنعاً لانصهاره في دول غير فلسطين الوطن والأرض الأم، وخدمة للعدوّ الاسرائيلي. وهذه بحدّ ذاتها مقاومة وطنيّة ودستوريّة في صلب الدّولة. وهذا ما نحن بأمسّ الحاجة إليه، اليوم وغداً. ولا يزايدنَّ أحد على الدّولة اللبنانيّة وعلى كلّ مَن يحملون لواء الدّستور والقانون في هذه القضيّة، خدمَة لقضايا لا تمتّ بصلة إلى الوطن.

 

وفي موضوع المنطقة، يبقى أنّ الالتفاف على قانون قيصر الذي أعدّ لكبح جماح النّظام السوري قد نجح به هذا النّظام من البوّابة اللبنانيّة. فازدادت وتيرة التهريب كما سبق وحذّرنا منذ سنة تقريباً، ممّا انعكس سلباً على الاقتصاد اللبناني، فتكبّد خسائر قاربت العشرة مليارات دولار أميركي حتّى اليوم، نتيجة لسياسة الدّعم المنهوب بالتّهريب. إضافة إلى ذلك كلّه، تبرز في سياق القضيّة العربيّة أكذوبة المقاومة التي انتهجها “حزب الله” اللبناني من بعد تاريخ 25 أيّار في العام 2000، والتي كبّدت بدورها لبنان خسائر كان بالإمكان الاستغناء عنها وتفاديها لو أنّ هذا الحزب التزم بالسيادة اللبنانيّة التي استباحها بعدما انخرط في حروب إيران ضدّ العرب في العراق وسوريا واليمن وغيرها من الدّول، وإن لم يتدخل فيها في حروب مباشرة، فهو شكّل خلايا لزعزعة أمن بعضها. وذلك مبرّر بأعرافه انطلاقاً من اعتباره كمقاومة إسلاميّة في لبنان؛ نتيجة لهويّته غير اللبنانيّة الانتماء.

 

وهذا كلّه يؤكّد أنّ أساس الإشكاليّة التي نواجهها في لبنان هي في السيادة الوطنيّة المنتَهَكَة من قبل “حزب الله” اللبناني خدمة لمشروعه الأيديولوجي العقائدي الذي يرتبط بالجمهوريّة الاسلاميّة في إيران، بعيداً من القضيّة العربيّة الأم. وهذا ما ضرب القضيّة اللبنانيّة بصميمها، حيث لم يعد خافياً على أحد أنّ الحرب التي خاضها الحزب ضدّ إسرائيل منذ تاريخ نشوئه وقضائه على حركات المقاومة الوطنيّة التي سبقته، فضلاً عن الحروب التي خاضها بعد تاريخ التحرير وما زال؛ هذه كلّها تندرج في سياق الحرب الكيانيّة التي يخوضها في لبنان بهدف إنشاء الهويّة الاسلاميّة التي تتخطّى الحدود اللبنانيّة، والتي ترتبط بولاية الفقيه في إيران، ولا تمتّ بصلة إلى الاسلام الذي يشكّل في لبنان عماد الكيانيّة اللبنانيّة.

 

فبحسب حجة الإسلام فخر روحاني – سفير إيران في لبنان سابقاً– في مقابلة أجرتـها معه صحيفة “اطلاعات” الإيرانية في نـهاية الشهر الأول من عام 1984، يقول روحاني عن لبنان: “لبنان يشبه الآن إيران عام 1977، ولو نراقب ونعمل بدقة وصبر، فإنّه إن شاء الله سيجيء إلى أحضاننا، وبسبب موقع لبنان وهو قلب المنطقة، وأحد أهم المراكز العالمية، فإنه عندما يأتي لبنان إلى أحضان الجمهورية الإسلامية، فسوف يتبعه الباقون”.

 

من هذا المنطَلَق، تأتي المقاربة الجيوبوليتيكيّة الايرانيّة للبنان الجمهوريّة الاسلاميّة المؤجّلة إلى حين تغيير الهويّة الكيانيّة اللبنانيّة. ومواجهة هذا المشروع لا تكون بكرتونة غذائيّة أو بأدوات تنظيف، أو حتّى بمساعدات ماليّة. ما نحن بحاجة إليه هو دعم دوليّ لتثبيت الكيانيّة اللبنانيّة، وهذا يبدأ باستعادة السيادة اللبنانيّة الكاملة من خلال تثبيت الحدود اللبنانيّة أولاً، وترسيمها وتحديدها بحراً وبرّاً، ومن دون الخضوع للمساومات الجيوبوليتيكيّة، لا سيّما في البحر مع العدوّ الاسرائيلي، ومع النظام السوري. فالاسرائيلي يتودّد ويستغلّ الظروف اللبنانيّة كلّها لتثبيت حدوده بحراً، والجار يرفض ترسيم حدوده خدمة لمشروع وجوديّته. فالترسيم مع سوريا بات بالنسبة إلى النظام قضيّة وجوديّة، يرفض تحقيقها ولا يهتمّ إن استنفد القدرات الاقتصاديّة اللبنانيّة بالكامل.

 

هذا بالنسبة إلى القضيّة اللبنانيّة التي تتأثّر مباشرة بالمخطّط الإيراني الذي يصل إلى الحرمين الشريفيْن مكّة والمدينة، وهذا ما يؤجّل مخطّط إيران وتوقيته لا أكثر بانتظار اللحظة المناسبة لتحقيقه؛ ومن هنا نستطيع ولوج الملفّ التفاوضي الايراني – الأميركي الذي يَعتَبِر التمدّد الايراني خطراً من الناحية الأميركيّة، وأساساً من الناحية الايرانيّة. ولن يسلَم هذا التمدّد من التفاوض. وسيكون العائق في التقدّم، لكن بنهاية المطاف ستختار إيران البقاء محليّاً على الزوال إقليميّاً.

 

فالمغامرة الايرانيّة ستنتهي حتماً، لكن بالإمكان القول بأنّ الاحتمالات كلّها مطروحة. وإن لم نستطع تثبيت الكيان واستعادة السيادة بتطبيق الحياد لن نستطيع أن ننأى بأنفسنا عن التأثير الجيوبوليتيكي في ملفّات المنطقة ككلّ. ويجب البدء من تغيير هذه المنظومة التي تتحكّم بالقرار السيادي في لبنان. وذلك لا يتمّ إلا بانتخابات نيابيّة اليوم قبل الغد. ذلك كي لا يدفع لبنان الثمن الأكبر لقاء المشروع الايراني في المنطقة كنتيجة لقطع الرابط العربي. فهل سينجح الأحرار باستعادة سيادة لبنان من البراثن الايرانيّة قبل القضاء على الكيانيّة اللبنانيّة بالكامل؟