حرب غزة كانت ولا تزال أكبر من «حماس» وإسرائيل. وأهداف المتدخّلين فيها ليست مطابقة لأهداف طرفيها المباشرين، ولا سيّما منهم أميركا وإيران. اللاعب الأميركي محكوم بحسابات داخلية وخارجية واسعة ومعقّدة قادته الى صدام مع نتنياهو مع استمرار الدعم لإسرائيل. واللاعب الإيراني حذر ودقيق الحسابات في اللعبة مع إسرائيل وأميركا، حتى في إدارة الحرب بالوكالة. الأميركي عين على الانتخابات الرئاسية في الخريف وعين على المشهد في المنطقة بعد الحرب. والإيراني خائف على نظامه ومشروعه الإقليمي واستثماره العسكري والسياسي في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة. وكلّ ما قيل في بيروت عن سياسة الغموض في إدارة حرب «الإسناد لحماس» وترك الكلمة للميدان، جاء ما يجعله صورة واضحة كالبلور.
ذلك أن جمهورية الملالي لم تكتم منذ البدء القول بلسان غلام علي عادل مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي: «يجب أن يعلم من يرغبون في دخول إيران حرب غزة أن هذا ما يرغب فيه النظام الصهيوني لأن الصراع سيؤدي الى حرب مع الولايات المتحدة، وستكون إسرائيل في جانب آمن في هذه الحرب». ولا كان من المفاجآت، إلا في الشكل لجهة الكشف عن ثلاث زيارات سرية قام بها قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الجنرال إسماعيل قاآني الى بيروت، تحذير الرجل من توريط إيران في حرب مع أميركا. وهو أمر من الطبيعي أن يأخذه «حزب الله» في الاعتبار.
وإذا كان هناك من يتجاهل ما تعترف به الدول الكبرى، وهو حدود القوة، فإن من الصعب إخفاء حدود الحرب على جبهة الجنوب. إذ هي لا تزال ضمن قواعد الاشتباك، بصرف النظر عن توسيع مناطق التقاصف، لأن المعيار هو نوعية الردّ لا المساحة الجغرافية. وهي محكومة بعاملين: لا مجال لخطوة الى الأمام في الحرب، لاعتبارات إيرانية ومحلية. ولا إمكان للتراجع خطوة واحدة، لاعتبارات محلية وحسابات فلسطينية. وهذا يعني الغرق في حرب استنزاف، وإن كانت «الخسائر في شمال إسرائيل أكبر من الخسائر في الجنوب اللبناني» حسب السيد حسن نصرالله. حرب يقرّر استمرارها العدو تبعاً لاستمرار حرب غزة، إن لم ينفّذ تهديده بشنّ «حرب شاملة في الشمال»، حيث يؤيّدها 72% من الإسرائيليين كما أفاد استطلاع حديث للرأي. وما الفائدة من خسارة إسرائيل إذا جرى تهديم لبنان على غرار ما يحدث في غزة؟ المسألة في النهاية أبعد من حرب «الإسناد» وما تنتهي اليه. ومن باب الجهل أو التجاهل أو العجز عن إيجاد حل قول أطراف في لبنان ما يتردّد في عواصم الغرب وما كرّرته مؤخراً باربرا ليف المسؤولة عن الشرق الأوسط في الخارجية الأميركية. ليف رأت أن «حزب الله يقود لبنان الى وضع خطير» ودعت الى أن «تحتكر الدولة اللبنانية السلاح ويكون حزب الله حزباً سياسياً «. فهذا تبسيط لموضوع معقّد.
«حزب الله» بالمعنى الإيديولوجي والعملي هو حزب «سوبر سياسي» لديه مشروع كامل. ودعوة البعض الى «لبننة حزب الله» هي كلام رومنطيقي لأن طموحه هو «أيرنة» لبنان وعسكرته أو أقله جعل المقاومة هويته. ولم يتم تأسيس «حزب الله» وتمويله وتسليحه ليكون مجرّد حزب عادي في لبنان وللتحكم به ويقوم بأدوار إقليمية الى جانب مقاومة إسرائيل، ويكون «خط الدفاع الأول» عن الجمهورية الإسلامية. وعلى من لا يزال يحلم أو يتوهّم، أن يتذكر ما قاله السيد حسن نصرالله عام 2019: «نحن هنا من لبنان نقول للعالم كله إن إمامنا وقائدنا وسيدنا وعزيزنا وحسيننا في هذا الزمان هو سماحة آية الله العظمى الإمام السيد الحسيني الخامنئي دام ظله، وإن إيران هي في قلب المحور ومركزه الأساسي وداعمه الأقوى وعنوانه وعنفوانه وقوّته وحقيقته».
والسؤال هو: متى نمارس قول كلاوزفيتز حول الانتباه الى «أهمية نقطة الذروة عندما يفقد التقدّم قوة الدفع؟».