توصّل قادة الجمهورية الاسلامية في ايران في السنوات الاخيرة الى حد الاعتقاد بأن الساحات العربية باتت مُجهّزة ومُشرّعة لقبول ثورتهم، والى اعتبار مقدّرات الشعوب الممتدة من العراق وحتى لبنان سلعةً بيد ادارتهم الفقهية، والى ان وكلاءهم المحلّيين المفوّضين بالشؤون العسكرية والامنية باتوا هم القادة الحقيقيون لهذه البلدان. توصّل قادة الجمهورية العاملة من سنوات طوال على تصدير ثورتها المتخلّفة الى قناعة ان مرحلة التصدير قد تمت بنجاح، وانهم ينتقلون حالياً بكامل الثقة الى مرحلة تخضيع الفئات الاخرى والتشيّع القسري للبعض الآخر والتثبيت للعقيدة في كافة زوايا الساحات الخاضعة لجبروتهم. وتوصّل قادة هذه الثورة الى تسمية الزمن الحالي للمنطقة العربية بالقرن الفارسي بنسخته الاسلامية الشيعية الفقهية. وتوصّل هؤلاء القادة ايضاً الى القناعة بأنهم اصبحوا لاعبين اساسيين في المعادلات الدولية، معتبرين ان واقعة جلوسهم حول طاولة المفاوضات مع الاميركي منحتهم البطاقة الذهبية التي ادخلتهم الى نادي قادة الكرة الارضية، ومفترضين نتيجة لذلك بأن قوتهم العسكرية الوهمية تسمح لهم بإرعاب الجيش الاسرائيلي وتركيع الشعوب العربية المحكومة من منظماتهم الارهابية.
ان قناعة قادة الجمهورية الاسلامية في ايران المبنية على التقييم الذاتي المُضخّم لقدراتهم ولموازين القوى لصالحهم خلصت لنتيجة ان المنطقة العربية قد اصبحت باعتراف القوى الدولية النافذة بعهدة نظامهم، وان التسويات الاقليمية وحاجات الدول الغربية للاستقرار وللمصالح الغازية والاستثمارية من المنطقة قد أمّن النفوذ للجمهورية الاسلامية وثورتها، ووكّلها بشؤون الشعوب، وثبّت خضوع العراق وسوريا ولبنان واليمن لنفوذهم. قناعة تنطلق من افتراض قادة هذه الجمهورية ان الضوء الاخضر الاميركي والغربي «المفترض وغير الصحيح» يسمح لهم بالتمادي في التعاطي وكأنهم الولي والمتكلّم باسم هذه الدول وشعوبها. يتعاطى هذا النظام الثوري وكأنه اللاعب الذي لا يمكن تجاهله في اتمام الترتيبات بسبب قدرته على العرقلة والخربطة والتفجير، ولا يمكن القفز فوق حساباته خلال المواجهات كونه مستعداً دائماً لعقد الصفقات والتعاون وفرض الحلول والهدوء المدروس.
بهذه الخصائص استطاع هذا النظام فرض نفسه معارضاً بالاساس ومشاركاً بالواقعية ومسيطراً بالعنف ومفاوضاً بالمنطق. بهذا التموضع الخبيث توصّل النظام الايراني الثوري الى كسب دور مركزي وخادم للمصالح العليا. امّا وقد اوصل نفسه الى هذا الموقع المتقدّم، فقد حمّل نفسه مسؤوليات ضخمة اكبر من امكانياته الحقيقية التي لن تسعفه على الاستمرار في قيادته للمنطقة وتبوّؤ الصدارة، وها هي المنطقة تتفجّر بوجهه. وصلت ثورته وهي بقمّة القوة الى الحائط المسدود، فبدأت مشاهد الصدامات في الساحات تؤكّد بأن عقيدتهم مرفوضة حتى من المجتمع الشيعي العربي، وتُثبّت ان تعنّت الفئات الاخرى بوجه منظماتهم الترهيبية يقف عائقاً امام مقدراتهم على اخضاعها، وتبرهن فشل اداراتهم الرسمية وغير الرسمية نتيجة افتقادهم للكفاءات. تحرّرت الشعوب العربية من سطوة المشروع وثورته المتخلّفة، واسقطت بذلك التسويات الكبرى سلفاً. ولا نجاح لثورة لم تقدّم الافضل للشعوب ولذلك تراها تدخل في حروب داخلية ومواجهات شاملة ومشاهد عنف في الساحات العراقية والمدن السورية والقرى اللبنانية. ثورة جلبت الكوارث واللعنات والمعاناة للشعوب والتخلّف للاوطان، هي ثورة منهارة بالاساس، ولم تندلع اصلاً لاجل الناس بل لصالح سيطرة بعض العقائديين المنفصلين عن الواقع الانساني، واوطان رفضتها وانتفضت بوجهها هي اوطان حيّة لشعوبٍ حرّة. فهل يتوصّل قادة هذا المشروع الثوري الى القناعة بأن مجرّد استمرارهم بمشروعهم ليس الا خدمة لقوى اقليمية يدّعون المقاومة ضدها، ام ان قناعتهم اصلاً هي حمل هذا الدور بأمانة؟؟؟
المهم ان ثورتهم «المؤامرة» انهارت، وان اوطاننا استفاقت وانتفضت، وان التسويات سقطت والاتفاقات فرغت وان المعركة مفتوحة، بين ثورة لم تقدّم شيئاً الا المآسي والتخلّف، وتنتظر راعيها الاقليمي لتدعيم استمراريتها، وبين كيانية لدول انشأتها نضالات الشعوب ورفضها للخضوع، ومنها لبنان الكبير الذي اُعلن منذ اكثر من مئة سنة ولن يُلغى من بعدها، وسينتصر حتماً، لانه قدّم الكثير للانسانية وللازدهار ولرخاء المجتمع عندما كان حر القرار، وبين قضية لحزب «حزب الشهداء» حزب «القوات اللبنانية» الذي لم يتخلّ يوماً عن النضال والمقاومة ويذكّر سنوياً بأن التسويات والتفاهمات والصفقات التي لا تأخذ بحسبان الوجود وحرّية القرار والانسان فيه، ولا تحفظ استمرارية الارث والهوية، فلن ترى النور وستبقى حبراً على اوراق المفاوضات، والتاريخ شاهد لمحطات سابقة والمستقبل سيشهد محطات مماثلة.