العالم الاسلامي في غليان واضطراب لم يعهده من قبل، اقله منذ انهيار دولة الخلافة في زمن السلطنة العثمانية التي تواجهت مع شعوبها ومللها حتى مطلع القرن العشرين لأسباب غير مرتبطة مباشرة بالدين.
منذ ذلك التاريخ، نشأت في العالم العربي والاسلامي كيانات دول وقوميات وتراكمت الثروات، لاسيما النفطية منها. وظل الاسلام دين الدولة او دين رئيسها في معظم الكيانات. كما قامت حركات اسلامية جديدة، خارج اطار الدولة، ابرزها الاخوان المسلمون الذين انطلقوا من مصر في أواخر عشرينات القرن المنصرم الى العالم الاسلامي اجمع.
بدأ الاخوان جهادهم في العمل الدعوي والاجتماعي، لكن سرعان ما دخلوا المعترك السياسي واصطدموا بالناصرية في عز حركتها ونفوذها وقُمعوا بشدة، الا أنهم استمروا في نضالهم وفي سعيهم الى السلطة السياسية.
الحركة الوهابية في الجزيرة العربية سبقت الاخوان، عقيدة وممارسة، واتخذت مسارا مختلفا بالتحالف مع آل سعود، اصحاب النفوذ في شؤون الحكم، فوقع الصدام بداية مع الدولة العثمانية، بواسطة حاكم مصر محمد علي، ولاحقا في مطلع القرن العشرين، مع الهاشميين، حكام الحجاز. ففي حين فشل مشروع الدولة الوهابية في القرن التاسع عشر، الا انه تحقق في القرن العشرين في ظروف دولية مؤاتية، فنشأت المملكة العربية السعودية دولة اسلامية متشددة دينيا، مَرِنة مصلحيا، بفعل ارتباط اقتصادها بعملية استخراج النفط وتصديره الى الاسواق العالمية.
وفي مصر، الأزهر الذي تأسس منذ اكثر من ألف سنة، لا يوازيه اي مرجعية في شرعيته الدينية والتاريخية بمعزل عن الامبراطوريات والدول. وفي العراق، الحديث والقديم، صراع منذ بدايات الاسلام حتى نشوء الدولة الحديثة في مطلع القرن العشرين، وهو متعدد السبب والبعد: ديني، اثني، مذهبي، واخيرا قومي. وجاءت احزاب القومية العربية وقادتها في الحقبة المعاصرة لتحتكر السلطة في عدد من دول المنطقة واخفقت في مشروعها “الثوري” التغييري، وفي السنوات الاخيرة، بات الحفاظ على كيان الدولة الوطنية بعد ان اجتاحتها الجيوش، البعيد منها والقريب، انجازا لا يستهان به.
والسؤال، لماذا يستعيد الدين موقع الصدارة في الخطاب السياسي وفي مواقع السلطة على مستوى الحكام والمحكومين في زمن التراجع والفشل في العالم العربي والاسلامي؟ ولماذا لم يكن الدين الملاذ بعد الفشل السياسي والهزيمة العسكرية في دول ومجتمعات اخرى، مثلما كانت حال بعض الدول الاوروبية بعد الحرب العالمية الثانية ولاحقا في التسعينات بعد انتهاء الحرب الباردة، أوفي اليابان بعد الهزيمة العسكرية الموجعة والغاء الامبراطورية في الحرب العالمية الثانية؟
لم يُستنهض الغرب المسيحي (سابقا) بوسيلة الدين او تُستنهض اليابان بإعادة الاعتبار الى الدين والامبراطورية في شؤون الدولة وحركة المجتمع. وفي روسيا استعادت الكنيسة الارثوذكسية موقعها المتقدم بعد تفكك الاتحاد السوفياتي الذي اضطهدها بشدة، الا ان الحكم الآن بيد السلطة السياسية المتحالفة مع الكنيسة. وخارج اوروبا، سقط نظام ماركوس الديكتاتوري في الفيليبين وتم القضاء على التمييز العنصري في جنوب افريقيا، وكان للكنيسة الكاثوليكية دور فاعل في الفيليبين وللكنيسة الانغليكانية دور حاسم في جنوب افريقيا في هذه التحولات. الا ان الشأن السياسي ظل بعيدا عن الدين وسلطة اوليائه قبل “ربيع” هذه الدول ومجتمعاتها وبعده. وثمة حالات اخرى مشابهة لا مجال لتعدادها.
شهدت ايران انتفاضة شعبية في 1979 اطاحت نظام الشاه، وكانت الحركة الاسلامية في صلب تكوينها وانطلاقها. ولم تصبح ايران دولة اسلامية بقيادة الامام الخميني إلا بعد مرحلة انتقالية غلب عليها الطابع غير الاسلامي. خاضت ايران الاسلامية معركة “تصدير الثورة”، الا ان “الصادرات” بدت فارسية وشيعية، لا اسلامية، في نظر جيرانها السنة العرب، فوقع الصدام الدامي ولم ينته الى اليوم. واخيرا، في الجزائر حرب تحرير باهظة الكلفة لنيل الاستقلال لم تحركها العقيدة الدينية، الى ان ظهرت التيارات الاسلامية بعد نحو ثلاثة عقود من الاستقلال في اطار تنافس انتخابي ديموقراطي تحول صداماً الغائياً بين ثوار الدين والدنيا في تسعينات القرن الماضي.
اللافت في السنوات الاخيرة بروز الحركات السلفية التي انتقل معظمها بين ليلة وضحاها من الجهاد الدعوي السلمي الى الجهاد المسلح التكفيري ومن استهداف “العدو الأبعد” الى “العدو الأقرب” وبات النزاع بين جهاديي الجيل الأول من سلفيي “القاعدة” والجيل الثاني من سلفيي “النصرة” و”داعش” وسواهما. وبين جهاديي افغانستان والمشرق العربي باتت ارض الدول والشعوب والاديان مستباحة لابادة جماعية على يد خاطفي الدين ومفسريه بحد السيف. وقد ساهمت تداعيات “الربيع العربي” بتظهير المخزون الهائل من العنف البربري والقتل الاستعراضي.
في زمن مضى، شهد العالم الاسلامي حركة احياء ديني جريئة تناولت مسائل دينية وفقهية بالغة الحساسية، وقوبلت برفض مطلق من المرجعيات الدينية لاسباب عديدة، دينية وسياسية وسلطوية وسواها، الا انها شكلت حالة زخم اصلاحية، يقابلها اليوم زخم معاكس في اتجاه التكفير والغاء التفكير، الفردي والجماعي، وصولا الى القطيعة الكاملة مع الغير المختلف. هنا يبرز التحدي الحقيقي بالنسبة الى موقع الدين في السلطة في زمن العولمة والانفتاح بين الشعوب، بينما الصراع الدائر في العالم العربي والاسلامي محوره ارض الجهاد وحدودها لا بهدف التحرر من الطغيان، بل للتحكّم بمصائر رجال ونساء واطفال ذنبهم ان وجودهم في التاريخ تزامن مع العدمية الداعشية، والتحكّم يبدأ على ارض البشر ليصل الى الجنة، حيث ينتفي الجهاد ليحلّ الترغيب مكان الترهيب.