هناك جملة عناصر لم تُمنح حيّز الإضاءة الجدّية حتى الآن، مع أنها في أصل المسار المفضي، بين «القوات اللبنانية» والتيار «الوطني الحر»، إلى «إعلان النيّات»، وصولاً، في أعقاب ما تناهى من مبادرة ترشيحية للنائب سليمان فرنجية، إلى سحب الدكتور سمير جعجع ترشيحه لصالح العماد ميشال عون، وتبنّي تعليل عون لأحقيته في انتزاع الرئاسة ما دام الأكثر تمثيلاً، بعد أن كانت «القوات» قد راكمت ربع قرن من النقد الحيوي والثري الذي تناول هذا التعليل بالذات، وبعد أن انعطفت الحالة العونية من حليف إلى حليف (صدام فأميركا فالممانعة الإيرانية ـ السورية) ولم تثبت إلا على هذا التعليل بالذات.
أول عنصر يستحق إعادة التنبيه عليه هو السابع من أيّار من ناحية اختلاف ارتداداته داخل كل طائفة، واختلاف ارتداداته داخل الطوائف عن أثره الأشد جسامة، والمتصل بتهشيم الجبهة العابرة للطوائف التي شكلتها قوى الرابع عشر من آذار، بأحزاب ذات حيثية متفاوتة في طوائفها، وقدر لا يُستهان به من المستقلّين (نسبياً طبعاً) عن هذه الطوائف. هذا على الرغم من ان «الحركة الاستقلالية» عادت وخاضت معركة انتخابات ألفين وتسعة، وكسبتها (وحتى لو ضاع منها الفوز بعد أيام قليلة من النتائج الا ان البلد كان ليسلك مساراً أكثر سوداوية لو أن هذا الفوز لم يحدث من الأساس، لكنها أصيبت بجراحة قاتلة يوم اقتحم «حزب الله» وحلفاؤه شوارع بيروت).
هذا الاطار الجبهوي سيصيبه التدخل الحربي في شوارع بيروت بشظايا أكثر فتكاً على المدى الأبعد منها على المدى الأقرب. فالمفارقة أنه سيقوي، بدرجات متفاوتة طبعاً، إلحاحية «الاعتماد على الذات» عند كل واحدة من القوى المواجهة لهيمنة الحزب المسلح، وجنوحاً لاعتبار توحيد الجهود في المواجهة ملبكاً أكثر ويفترض أكلافاً اضافية، خصوصاً في ما يتعلق بأكلاف اعادة صيانة التحالف الاستقلالي، وأكلاف تسهيل أو حماية حركة المشاركين الآخرين في هذا التحالف.
بالتوازي، ثمة ما هو مزمن ومتعب في تاريخ التعاطي الهوياتي والسياسي للمسيحيين بين بعضهم بعضاً في هذا البلد، ويتصل بالتأهب دائماً لـ «أسلمة المسيحي» الآخر المختلف معهم في الرأي، واعتبار تموقعه أو خطابه يصب في خانة تمكين المسلمين على المسيحيين. المفارقة ان الدعاية العونية منذ أواخر الثمانينيات، دمجت بين تهديفين على «القوات»: «أسلمتهم» ما داموا قبلوا باتفاق الطائف، واتهامهم بالتطرف الطائفي، على خلفية طرحهم الفدرالية في وقت سابق! أما الدعاية العونية بعد الجلاء السوري فصارت أحادية البعد: اتهام «القوات» بأنهم يساعدون المسلمين السنّة على أكثرية المسيحيين، وكان ذلك طبعاً في اطار تبادل التهمة. الفريق المسيحي الذي حليفه «شيعي» يتهم الفريق المسيحي الذي حليفه «سنّي» بحليفه، وبمنطق تحالفه، وبموقعه التبعي في التحالف المخاصم له، وكل يحاول اظهار كم هو مرتاح حيث هو، وكم أنه منسجم مع قناعاته، ومع مقاربته للوجود المسيحي والمصلحة اللبنانية الشاملة.
«أسلمة المسيحي للآخر المسيحي» كانت متعبة لـ «القوات» أكثر، وللأسباب نفسها التي كان يفترض أن تريحها أكثر: فـ «حزب الله» يدين بأيديولوجيا دينية تعبوية وهو مدجج بالسلاح، لكنه للسبب نفسه قادر ان يعطي المسيحيين «في الشكل» أكثر، كمثل موافقته على «القانون الأرثوذكسي»، يمكنه ان يتكارم في الشكل لاستحواذه على سائر المضامين!
هذان العنصران (آثار التدخل الحربي، ومتاهة أسلمة المسيحي لأخيه المسيحي)، لعبا ويلعبان دوراً أكبر بكثير، من منطق «الاشتياق للمصالحة»، أو من معزوفة «تحالف الأقليات»، أو من التفسيرات الذاتية للصرف لما هو حاصل. وتحديداً العنصر الثاني، «أسلمة المسيحي للمسيحي»، فان منطق المصالحة المسيحية سيظل غير مستكمل كل شروطه ما لم تجر مراجعته بعمق، وليس وقف التحارب به بين طرفين، والابقاء عليه في مواجهة المسيحيين الآخرين. «أسلمة» المسيحيين بعضهم بعضاً لا تصحح معايير التمثيل وآليات المشاركة. بالعكس تماماً!