ليس مؤكّداً أنّ تأليف الحكومة في مهلة الأسبوعين، إذا تَحقَّق، سيعني أنّ الرئيس إيمانويل ماكرون بألف خير في بيروت. فوراء الستارة تدور أحداثٌ تستدعي التفكير: العاجزون عن «خربطة» الأوراق فوق الطاولة، هل سيعمدون في لحظةٍ إلى إشعالها، مِن تَحْتُ، بما فيها ومَن فيها؟
ليس واضحاً لماذا تحرَّك الأمن في لبنان، بعناوين حزبية أو مذهبية أو طائفية، بدءاً من انفجار المرفأ في 4 آب، ولماذا عاد اسم «داعش» إلى الواجهة، ومَن يستخدمه؟ بالتسلسل:
21 آب: اشتباك «غير مألوف»، شيعي- شيعي، بين «أمل» و»حزب الله» في بلدة لوبية الجنوبية.
22 آب: جريمة كفتون حيث قُتِل 3 شبان مسيحيين، من دون مقدّمات. ووفق بيان الجيش، تمّ اعتقال عناصر خليّة لـ»داعش» ترتبط بالعملية، وأظهرت التحقيقات أنّ «أمير تلك الخلية، الإرهابي المتواري عن الأنظار خالد التلاوي، استُخدِمت سيارته في الجريمة.
26 آب: شعبة المعلومات اعتقلت عنصراً من «داعش» في الجميزة، كان يستعدّ لعملية انغماسية ضد الجيش المنشغل هناك بعمليات الإغاثة.
27 آب: اشتباكات سُنّية- شيعية في خلدة.
7 أيلول: اشتباك «سُنّي» في الطريق الجديدة.
إذاً، ما خلفيات هذا اللعب المفاجئ بالأمن؟
قد تكون التنظيمات الإرهابية وجدت فرصتها اليوم للإطلالة برأسها والعبث مجدداً، بعد 3 أعوام من جلائها عن منطقة الجرود الحدودية. وقد تكون هناك أيضاً «طوابير خامسة» تريد العبث بالساحات بين الطوائف وداخل كل طائفة.
وربما يكون التوتير محاولة من البعض لقطع الطريق على بعض الخيارات السياسية، كالحياد، أو لتذكير الذين يعنيهم الأمر بأنّ لبنان يجب أن يبقى ساحة صراعٍ وصندوق بريد لتبادل الرسائل الإقليمية والدولية الساخنة.
وهنا تبرز خصوصاً زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» اسماعيل هنية للبنان، ولقاؤه الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، وما رافق الزيارة مِن عراضات عسكرية في عين الحلوة، وإطلاق مواقف تتحدّى إسرائيل، بأنّ لبنان ما زال بالنسبة إلى «حماس» جبهة مفتوحة، وأنّ فيه صواريخ يمكن أن تصل إلى «أبعد من تل أبيب».
الخبراء اعتبروا أنّ رسالة هنيّة موجّهة خصوصاً إلى الفرنسيين والأميركيين. فالرجل ينسّق خطواته بقوة مع محور تركيا وقطر، لكنه يحظى بدعم إيران أيضاً. وهناك تقاطع إيراني – تركي على دعم «حماس» في غزّة، كما هناك تقاطع حول ليبيا والعراق واليمن. وكذلك، حول لبنان.
يخوض الفرنسيون صراعاً مريراً مع تركيا في شرق المتوسط، يكاد يصل إلى المواجهة العسكرية. ولذلك، بديهي أن يكون الجانب التركي مستفيداً من تعطيل المبادرة الفرنسية في لبنان، أو على الأقل التشويش عليها. وثمة مَن يتحدث عن خطة تركية طويلة الأمد لفرض الحضور في لبنان، ولاسيما البيئة السنّية والنازحين والمخيمات.
وفيما يبدو تحييد لبنان عن المحاور والمواجهات الإقليمية أبرز مرتكزات المبادرة الفرنسية، فإنّ زيارة هنيّة تكرِّس انخراط لبنان في هذه المحاور، بدعم تركي – إيراني مشترك، ومن خلال حلفاء الطرفين. فالإيرانيون أيضاً متضرِّرون من طرح الحياد، ومن مصلحة «حزب الله» أن تتولّى «حماس» مَهمَّة التعطيل فلا «يُسَوِّدُ وجهَه» مع الفرنسيين.
وتذكِّر زيارة هنية استعادةً لزيارة قيس الخزعلي، الأمين العام لحركة «عصائب أهل الحق»، التابعة لـ«الحشد الشعبي العراقي»، بالبزّة العسكرية إلى جنوب لبنان، مطلع كانون الأول 2017، حيث واكبه «حزب الله» في جولة استطلاع عسكرية، ومن دون استئذان أحد في الدولة اللبنانية.
يومذاك، كان الرئيس سعد الحريري خارجاً للتوّ من أزمة الاستقالة المعروفة في الرياض، وقد أطلق وعداً للسعوديين ولصديقه الرئيس ماكرون، الذي اضطلع بدور حيوي في حلّ الأزمة، بأنّه سيبدّل نهج حكومته ويتبنّى استقلالية القرار والنأي بالنفس عن صراعات المحاور.
المشكلة هي أنّ لبنان يبدو عاجزاً عن اتخاذ قرار بالاعتراض على إلحاقه بالصراعات القاتلة. ولذلك، تقوم «حماس» بحراكها من دون تحفّظ. وأساساً، هي لا تمتلك القدرة على التحرّك ميدانياً في أي دولة عربية، إلّا لبنان. فلا الأردن يسمح، ولا مصر طبعاً، ولا حتى سوريا، حيث الرئيس فلاديمير بوتين يضبط اللعبة، وتُنفِّذ إسرائيل ضرباتها المتتالية لأي هدفٍ إيراني.
إذاً، هل تكون هناك «فتح لاند» مجدداً؟
لقد تعلّمت «فتح» من دروس الماضي، ومعها اللبنانيون الذين قاتلوها وقاتلتهم، وبعدما دفع الجميع أثمان التذاكي. ولكن، اليوم، ربما تبرز مخاطر استعادة السيناريو، بتدبير من بعض الفلسطينيين وبعض اللبنانيين، وتشجيع من بعض المحاور الإقليمية.
ولذلك، «خَلّوا عيونَكم على الأمن هذه الأيام»، يقولها أحد المطلعين. وفي تقديره أنّ أصابع كثيرة ستمتدّ للعبث بالأمن ولاستغلاله من أجل تحقيق غايات سياسية. ويضيف: «في عالم الأمن، صعبٌ تحديد الجاني، وتحديد الضحية، وتحديد الأهداف، وفرز البنادق الموضوعة برسم الإيجار عن بنادق المقاتلين الأبرار».
فهل يستعيد لبنان في الـ2020 سيناريو 1969 و1975؟ «التاريخ يعيد نفسه مرتين: مرّةً في شكل مأساة، ومرّةً في شكل مهزلة»، يقول كارل ماركس.