ليست المرة الأولى التي يأتي فيها اسماعيل هنية إلى لبنان. ولن تكون الأخيرة. وليس غريبا في ظل وجود هذه السلطة أن يفتح له صالون الإستقبال في مطار بيروت وأن يحل ضيفاً على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي. ولكن خارج هذا السياق الرسمي للزيارة يبقى لقاء هنية مع الأمين العام لـ»حزب الله» هو الأهم ويبقى أن ما لم يعلن عن الزيارة هو أهم الأهم.
ليست لقاءات هنية كلها معلنة. وليس من الضروري أن يأتي إلى لبنان لتتظهر العلاقة التي تربطه مع محور الممانعة و»حزب الله» تحديداً. في حزيران 2021 كان في لبنان وفي حزيران الحالي أتى إلى لبنان ولكن العلاقة مع «حزب الله» لا تتوقف على هذه الزيارات إنما هي مستمرة وقائمة وأبرز ما فيها ليس لقاءات هنية بل التنسيق العسكري بين جناحي محور الممانعة في لبنان وقطاع غزة، «حزب الله» وحركة حماس، خصوصاً في هذه المرحلة التي يمكن أن تتفجر فيها الأوضاع على الجبهة مع إسرائيل وفي ظل ما يعلن عن استراتيجية الحرب الواسعة والجبهة الواحدة.
هل يمكن أن تعمل حماس من المخيمات في لبنان؟ أم أنها لن تخرج عن القرار الفلسطيني المعلن بأن لا عودة للسلاح الفلسطيني إلى العمل في الداخل اللبناني؟ وهل يمكن أن تستعيد حماس في لبنان تجربة منظمة التحرير الفلسطينية التي هي خارجها؟ أم أن ما يمكن أن تقدم عليه الحركة في لبنان تعتبره من باب الصراع المفتوح ضمن الجبهة الواحدة مع إسرائيل؟ وهل بات «حزب الله» يأمن لهذا السلاح الفلسطيني الذي ساهم في تدريب حركة حماس عليه وتزويدها به وبتقنيات تصنيعه بعد تجربة الحرب السورية والخلاف مع الحركة؟
في كانون الأول 1992 لم يكن مضى على تولي السيد حسن نصرالله الأمانة العامة في «حزب الله» بعد اغتيال أمينه العام السيد عباس الموسوي في 16 شباط، إلا أشهر قليلة عندما أبعدت إسرائيل 415 ناشطاً إسلامياً معظمهم ينتمون إلى حركة حماس مع عدد قليل من الجهاد الإسلامي إلى مخيم مرج الزهور في البقاع الغربي في لبنان. عندما حاول «حزب الله» تقديم مساعدات للمبعدين رفضت حماس المساعدة. كانت الحركة التي لا تزال في طور النمو والتطور على أساس الفكر الأصولي ترفض «حزب الله» وتعتبره من الكافرين من ضمن تكفير الشيعة في شكل عام.
في العام 2013، وتحديداً في حزيران عندما خاض «حزب الله» معركة القصير في القلمون السوري تكبد خسائر فادحة في مواجهة التنظيمات الأصولية المعارضة للنظام السوري حيث سقط له أكثر من مئة مقاتل ونحو ألف جريح. كان الحزب يعلم أن حركة حماس تؤيد الحركات الأصولية المعارضة للنظام السوري ولكنه كان لا يزال غير مدرك مدى الدعم العسكري الذي قدمته هذه الحركة لهذه التنظيمات وكان يجهل أنها استخدمت التقنيات العسكرية والقتالية التي نقلها إليها الحزب.
التقت حركة حماس مع «حزب الله» على معارضة السلطة الفلسطينية التي اعتبرا أنها تنازلت عن القرار الفلسطيني وعن فلسطين من خلال اتفاق أوسلو في أيلول 1993. عندما خرجت منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في آب 1982 بعد الإجتياح الإسرائيلي سلمت المنظمة بتوجيه من رئيسها ورمزها ياسر عرفات إلى عماد مغنية وعدد من رفاقه مخازن أسلحة سرية وخلايا أمنية كانت تعمل معها. وكانت تلك انطلاقة العمل الأمني في ما سيعرف لاحقا بأنه جهاز أمن «حزب الله» المرتبط عضوياً بأجهزة الأمن الإيرانية الناشئة أيضاً. على رغم الخلاف حول استراتيجية السلام لم تنقطع العلاقة بين الحزب الذي لم يكن قد أعلن عن نفسه بعد وبين أجهزة السلطة الفلسطينية وفي هذه المرحلة كانت بدأت حركة حماس تنمو وتتوسع أيضاً على قاعدة الخلاف الإستراتيجي مع ياسر عرفات. وقد ساهم الحزب في دعم هذه الحركة وعلى مدة أعوام مدها بالتقنيات اللازمة العسكرية.
بعد عودة ياسر عرفات إلى الضفة الغربية في أول حزيران 1994 كان يعلن الإنتقال إلى مرحلة ثانية من النضال الفلسطيني مغادراً التجربة اللبنانية التي افتتحها بالكفاح المسلح مطلع العام 1965 وخاض خلالها محاولة قلب النظام في لبنان في العام 1975 منخرطاً في الحرب اللبنانية التي انتهى تدخله فيها حالماً بالعودة إلى القدس على ظهر باخرة تلاعبت بها رياح لا قدرة له على التحكم بها. 12 عاما كانت مرت على خروجه من لبنان. عندما سئل وهو على ظهر الباخرة متجهاً إلى تونس عن وجهته الأخيرة لم يتردد في القول إنه ذاهب إلى فلسطين. وجود عرفات على رأس السلطة الفلسطينية كان كافيا لعدم بروز حالات معاكسة له. ولكن في ظل هذه العودة كانت تنمو حركة حماس. عندما توفي عرفات في 11 تشرين الثاني 2004 كان الوقت قد حان لتخرج الحركة إلى السلطة. في آذار 2006 فازت في الإنتخابات في قطاع غزة وأصبح اسماعيل هنية رئيساً لحكومة القطاع ليدير معركة إخراج حركة فتح والسلطة الفلسطينية بطريقة دموية من القطاع. عبر الأنفاق المؤدية إلى القطاع من رفح المصرية وعبر بعض المسارب البحرية تمكن «حزب الله» من دعم الحركة بالإضافة إلى تدريبات قدمها للكثير من اعضائها في معسكراته في لبنان. لم يكن الحزب ينتظر أن تنقلب الحركة على هذه المساعدات وأن يجد نفسه في مواجهة مباشرة معها على الأرض السورية. ولكن كل ذلك لم يجعل العلاقة تنقطع. ذلك أن جناحاً عسكرياً وسياسياً داخل الحركة ظل على علاقته مع الحزب الذي حافظ بدوره على هذه العلاقة. في ظل هذه المرحلة بدا الحزب كأنه يتقرب أكثر من حركة فتح في لبنان. كانت لديه هواجس من تحول ضده في المخيمات خصوصا أن العديد من الإنتحاريين الذين فجروا أنفسهم في شوارع الضاحية الجنوبية خرجوا من المخيمات في الجنوب.
ثمة معركة خيضت داخل حماس من أجل هذه العلاقة مع «حزب الله». ظهر الأمر من خلال تعاطيه مع زيارة خالد مشعل رئيس الحركة في الخارج إلى لبنان مطلع العام الحالي عندما لم يستقبله نصرالله وقوبلت زيارته بالسلبية من الحزب وكأنه غير مرغوب فيه. زيارة هنية كانت عكس زيارة مشعل. هنية يسيطر على قرار الحركة في غزة. ولكن هل يمكنه أن يسيطر على قرار المخيمات في لبنان وأن يعيد اللعبة إلى ما قبل آب 1982؟ وأن يعيد زج السلاح الفلسطيني في الداخل اللبناني أم أنه ينسق مع «حزب الله» على مستوى عمل الحزب من لبنان وعمل حماس من قطاع غزة في معركة واحدة مع إسرائيل؟ قد يكون «حزب الله» يفضل هذه المعادلة لأنه لا يمون على تعددية الفصائل الفلسطينية ولا يأمن كلياً لسلاح حماس وخياراتها نتيجة التجارب السابقة، ولأن المعركة الأساسية حالياً تدور حول خلافة الرئيس الفسطيني محمود عباس في الضفة الغربية. ولأن حماس تدرك أن سيطرتها على مخيمات لبنان ليست كالسيطرة على قطاع غزة على رغم الترهل الذي تعيشه حركة فتح ومنظمة التحرير في هذه المرحلة الإنتقالية التي ستفتح الباب أما قيادات جديدة للقفز إلى السلطة. وفوق ذلك كله لا يمكن أن يقبل «حزب الله» بسلاح فلسطيني رديف ولو مساند له يلعب دوراً على مستوى المخيمات الفلسطينية وربما خارجها لأنه لا يمكن أن يقامر بإمكانية أن يلدغ من الجحر مرتين. ما يهمه أن يكون سلاح حماس في غزة وسلاحه في لبنان. وإذا كانت زيارة هنيّة عزيزة عليه فإن لبنان الآخر لم يجد أنها زيارة هنيّة بل مثيرة للتساؤلات والقلق والهواجس.