قبل ثماني سنوات، وفي هذا الهامش نُشرت مقالتي التي حملت عنوان «الإسراء والمعراج»، من المفارقات أنّ الأثقال التي كانت تُرهق اللبنانيّين يومها زادت اليوم ألف ضعف وضعف، في هذا البلد لا شيء يسير إلى الأمام، ونظرة على واقعنا لن يكون صعباً أن نفهم أننا نسير إلى الوراء وبسرعة هائلة، تحلّ علينا ذكرى جليلة وتخيّم على الإنسانيّة لحظة عظيمة في تاريخ البشر، لحظة ارتقاء نبيّ هذه الأمة صلوات الله عليه الطباق السبع {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى*فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم 8 ـ 11]، تحلّ علينا والعالميْن العربي والإسلامي تحت سابع أرض، كأنهم سيموا الخسف بأرضهم وبلادهم وأحوالهم، وما زالت الشعوب تُسحق تحت وطأة الديكتاتوريات التي لا تعبد إلا أصنام ذاتها وتجد من يقدّسها ويسبّح بحمدها!!
وللمؤمنين أسوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقد كانت الأيام التي سبقت حادثة الإسراء والمعراج من أشدّ أيام دعوته لله قسوة واستهانة بشخصه المقدّس وما يدعو إليه، حين طارده سفهاء الطائف وصبيانها وأدموا عقبيْه الشريفين رشقاً بالحجارة عندما قصدهم ليدعوهم لوحدانيّة الله، فدعا ربّه الأعزّ الأجل الأكبر ـ وندعو الله بدعائه أن يكشف عن لبنان وشعبه ما يُحاك له من مكر وخبث وتآمر على شعبه ودماء شهدائه ـ عسى يكشف هذا الكرب والغمّ: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس أنت رب العالمين وأنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوٍ ملكته أمري؟؟ إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسعُ لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقتْ له الظلمات وصلحَ عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحلّ عليّ غضبك أو أن ينزلّ بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك»…
قبل ثماني سنوات خصتني إحدى الزميلات برسالة هدأ بها روعي، وسُرّ بها قلبي، وأزعم أنني قرأتُ فيما قرأتُ الكثير مما رويَ وأُثر وكتب عن الإسراء وقصة المعراج، ولا يعلو عندي في هذا المقام كتاب على «كتاب الإسراء إلى المقام الأسرى» للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي» (تحقيق الدكتورة سعاد الحكيم)، كنتُ كمن يقرأ ما ورد في رواية ابن حبان للحديث الشريف للمرة الأولى في عمره، ولا أظنّ أن هناك ما هو أجلّ من هذه المناسبة لأتشاركها مع قارئ ما، عسى ربّنا ينفعني وينفعه وينفعنا بها.
روى مقاتل بن حبان أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولمّا أُسري بي إلى السماء، انطلق جبريل حتى انتهى بي إلى الحجاب الأكبر عند سدرة المنتهى، قال جبريل عليه السلام: تقدم يا محمد، قلت: يا جبريل لا، بل تقدم أنت، قال: يا محمد، لا ينبغي لأحد غيرك أن يجاوز هذا المكان، وأنت أكرم على الله مني، قال: فتقدمت حتى انتهيت إلى سرير من ذهب، وعليه فراش من حرير الجنة.
فنادى جبريل عليه السلام من خلفي: يا محمد، إن الله تعالى يثني عليك فاسمع وأطع، ولا يهولنَّك كلامه، فبدأت بالثناء على الله تعالى، فقلت: التحيات لله والصلوات والطيبات. قال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقال جبريل عليه السلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} فقلت: بلى يا رب آمنت بك {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} كما فرقت اليهود النصارى بين موسى وعيسى- عليهما السلام-، قال عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} يعني إلا طاقتها {لَهَا مَا كَسَبَتْ} يعني لها ثواب ما كسبت من الخير {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من الشر، ثم قال: سَلْ تُعْطَ. فقلت: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} يعني اغفر لنا ذنوبنا، فإن مرجعنا إليك يوم القيامة. قال الله تعالى: قد غفرت لك ولأمتك، ومن وحّدني وصدّق بك.
ثم قال: يا محمد سلْ تُعطى، فقلت: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله تعالى: لك ذلك، لا أؤاخذكم بما نسيتم أو أخطأتم، أو بما استكرهتم عليه، ثم قال: سل تعط، فقلت: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} وذلك لأن بني إسرائيل كانوا إذا أخطأوا خطيئة حرم الله عليهم بذلك أطيب الطعام كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهم} [النساء 160]، قال الله تعالى: لك ذلك. ثم قال: سلْ تُعطى، فقلت: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فإن أمتي هم الضعفاء، قال الله تعالى: لك ذلك، سَلْ تُعْطَ. فقلت: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة 285-286] قال: لك ذلك.{إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65].
يا ربّ، إنّنا أضعف الضعفاء في هذا الزمن، فرّج عنّا وعن أوطاننا، يا ربّ «لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».