لا رادع كالقصاص. إسرائيل لم ترتدع إلا عندما اختبرت وطأة القصاص اللبناني وذاقت طعمه. القصاص هو الضامن الوحيد لأمن لبنان واللبنانيين، ولا بد من تعميمه، بما يضاعف من حصانة البلد ويردع «تجار الهيكل» وشركاءهم وورثتهم ومشغليهم عن العبث ببعض أثمن ما حقّقته المقاومة.
المنظومة اللبنانية القاتلة إياها، التي اعتادت السيطرة على الموارد، والاستحواذ على المناصب، والاستثمار في الكوارث وتنفيذ الأجندات الخارجية… تعيش قلقاً يفوق قلق مشغّليها. فاحتمالات نجاتها من المحاسبة، هذه المرة، تتضاءل. إنها في سعيها المحموم والمتوتر، اليوم، إلى إشعال البلد وإغراقه في الفتن والحروب، على نحو ما خبره اللبنانيون، خلال الأيام القليلة الماضية، من وقائع فتنة متنقلة، تكشف، وبأوضح ما يكون، عن حقيقة ما يدور في رؤوس متزعميها، وطبيعة الدور القذر المناط بها، والمطابق لبنيتها العصاباتية. فالعصابة التي هالها نجاح المقاومة في تجاوز الفخاخ المنصوبة لم تكتف بمشاهد الفجور الإعلامي والسياسي المتواصل لغسل الأدمغة ومحو الذاكرة والعبث بها، فألحقتها بمشاهد العهر السياسي الخالص، فكانت «العظة» الحاقدة والبلهاء، مع كل ما سبقها ولحقها، وكان الكلام المفخّخ الذي يحاول قولاً فتنوياً مستعاداً من زمن أسود مضى. إنه استعجال العصابة الكاشف لمقدار التورط، وحجم المخطّط. والهدف الواضح والجلي هو نفسه: تحقيق ما عجزت عنه حروب العدو، وما يعجز الحصار الغربي و»العربي» المطْبِق، حتى الآن، عن تحقيقه: محاصرة المقاومة والنيل من صورتها، وتالياً النيل من مناعة البلد الوطنية التي كلفت ما كلفته من التضحيات.
طبعاً، لهذا أو لذاك من المشتغلين في الشأن العام، أن يخدع نفسه ما طاب له ذلك، وله، أيضاً، أن يصدّق الأكاذيب التي يريد تصديقها، فهذا حق قابل للبحث، خصوصاً أننا نعيش في بلد لم يعرف أفراده ولا جماعاته إجماعاً إيجابياً واحداً، وكل ما يُصدّر، أو يقال، في هذا الصدد لا يعدو أن يكون محض أكاذيب واختلاقات، بعضها صادق، وبعضها الآخر لا صلة له بالصدق لا من قريب ولا من بعيد، بل هو نوع مشين من أنواع التزوير ويرقى إلى مرتبة الجريمة. ومع ذلك، وبالرغم منه، فإن حق خداع النفس وتصديق الأكاذيب ليس مطلقاً، ولا يمكنه أن يكون كذلك أبداً. فثمة حدود وثمة سقف وإلا ضاعت المعايير واختلت الموازين، وهو، في الحقيقة، جوهر ما يريده سدنة الخداع اللبناني ويسعون إليه.
وفي مقابل هذا الحق القابل للبحث، هناك ما هو غير قابل للبحث ولا للنقاش، وهو خداع الآخرين أو الكذب عليهم. خصوصاً متى تعلق الكذب بالتزوير الفاضح والاختلاق الرخيص وفبركة الاتهامات. فالتكالب على الاستثمار بأوجاع الناس والمتاجرة العلنية بمآسيهم بلغ حداً بات يهدد «الاستقرار» العام ومن ثم الإطاحة به. فهؤلاء الذين امتهنوا التعبئة والتحريض الطائفيين ماضون في تنفيذ المهمة التي وُعدوا بأن تكون مخرجهم الوحيد للنجاة من عواقب ما اقترفت عقولهم المجرمة وأيديهم الملوثة. فحرف الوقائع والتعمية على الحقائق وقلبها، وغيرها من المهام القذرة المتساوقة مع أجندة الخارج الاستعماري وإملاءاته التي ترعاها سفارات القتل الغربية وبعض «العربية»، يستعيد البرنامج الأسود إياه الذي يظلّل حياة اللبنانيين منذ ما بعد عام 2005، وبالأدوات الصدئة المجرّبة إياها التي تشمل خليطاً من الحاقدين والمهزومين والسماسرة والتجار من رجال دين وسياسة وكتبة وإعلاميين و»ناشطين»… طامحين إلى الوصول وتقلد المناصب.
الإصرار الوضيع والمشبوه على تكرار معزوفة تعميم المسؤولية، السابقة على انتفاضة تشرين وشعاراتها القاصرة، والمستمدة من أدبيات التلفيق والزعبرة اللبنانية، يستبطن، وبصورة مكشوفة، تجهيل المسؤولين الحقيقيين المعروفين بالأسماء والصور ومواقع النفوذ ومستوى العيش وشبكة العلاقات الخارجية العابرة. والتردّي العام المسيطر هو الوليد الشرعي لحكم العصابة اللبنانية الحاكمة والمتضامنة العابرة للطوائف والمذاهب والتحالفات الآنية والاستراتيجية. وكل كلام آخر لا يأخذ في اعتباره هذا المعطى الجوهري، أو يبني عليه، يسهم من حيث يعي أو لا يعي في مفاقمة ما يعيشه البلد من أزمات متنامية، ويصب في طاحونة المتربصين من ذوي الأجندات الممولة بالريال والدولار والشيكل… إن التصويب المباشر والمركّز والمشبوه على حماة البلد وصمام أمانه واستقراره يرقى إلى أن يكون بمثابة الاعتداء الموصوف على العقل والأخلاق ووعي الناس وحقهم في المعرفة والعيش بكرامة، كما وينمّ عن مقدار احتقار العصابة السلطوية لهذا الوعي الذي حال ويحول دون الوقوع الكامل في براثن التعبئة الطائفية والتحريض المذهبي. فالمخادعون والكَذَبَة الذين لم يملّوا من تكرار القول بمسؤولية الفلسطينيين عن إشعال نار الحرب الأهلية، وتجاهلهم الفاضح للأسباب الداخلية العميقة، ومسؤولية النظام السياسي المصطنع والتافه عن تفاقمها وصولاً إلى القرار بإشعالها يعاودون العزف المجرم إياه. فالحياد، عندهم، خلاص، والعدو صديق، والطائفية نعمة، والخيانة وجهة نظر، وخدمة الأجنبي انفتاح، والتلفيق شطارة، والعروبة تخلّف، والوطنية ارتهان، والحرية فوضى، والأخلاق سفاهة، والإسفاف ثقافة، والسياسة حقارة، والاقتصاد سرقة، والعنصرية فرادة، والحروب الأهلية «حروب الآخرين على أرضنا»…
على اللبنانيين أن يحذروا مما يُعدّ لهم في السفارات الغربية وامتداداتها في القصور التابعة. وعلى اللبنانيين أن يعوا أن خلاصهم يتطلب، أول ما يتطلب، فضح هؤلاء المجرمين الذين ينوون، هذه المرة، أيضاً، المقامرة بما استرهنوه من حيوات الناس وأعمارهم، ومعاقبتهم على ما ارتكبوه أو سيرتكبونه مستقبلاً. فالعصابة التي تعودت الاستئثار الكامل بالمغانم والمقدرات والأسلاب ترفض، أيضاً، التنازل عما تعتبره حقّاً أقطعه الاستعمار لها ولأولادها من بعدها. وهي ماضية في العمل بمقتضيات الوظيفة القذرة التي أُسندت إليها مع ولادة «لبنان الكبير» بالضد من حقائق التاريخ والجغرافيا، وغيرها من الحقائق الصلدة، التي ثبت، وبالملموس الباهظ، تعذّر ديمومته واستمراره إلا بالحروب والفتن والدموع والدماء.
القصاص من هذه العصابة المسؤولة عن إفقار الناس وتجويعهم هو السبيل المفضي إلى تعزيز الأمن اللبناني وحماية منجزاته وأولها تحرير عام 2005 التاريخي وما تلاه. والنبيه العاقل من الإشارة سيفهم!