أعلنت شركة «إنيرجيان» اليونانية التي استحصلت من دولة العدو على حق التنقيب عن الغاز في حقل «كاريش» (شمال فلسطين المحتلة) المتداخل مع المياه الاقتصادية للبنان، وصول سفينة حفر إلى الحقل تمهيداً للبدء في حفر أولى الآبار فيه. الإعلان الإسرائيلي، عبر الشركة، يأتي في سياق المعركة مع العدو على الموارد والثروة الغازية في منطقة غنية جداً بالوقود الأحفوري، وفقاً لمعظم التقديرات، تدّعي «إسرائيل» أن لها حقاً فيها، وتسعى إلى مشاركتها مع لبنان، تمهيداً لتحقيق مصالح تتجاوز العوائد الاقتصادية، على أهميتها.
فهل الإعلان الاستفزازي مقدمة للمخاطرة بالحفر الفعلي واستخراج الغاز اللبناني والاستحواذ عليه، أم يأتي في سياق الترهيب لدفع لبنان إلى التراجع عن جزء من حقوقه، خشية أن تفرض إسرائيل أمراً واقعاً في الميدان الحدودي البحري؟
قبل الإجابة والترجيحات، تجب الإشارة إلى الآتي:
– المنطقة المذكورة واعدة جداً في ما يتعلق بفرص العثور على كميات من الغاز والنفط، وتحديداً في البلوكات اللبنانية التي تمتد رقعتها الجغرافية إلى ما وراء حدود هذه المنطقة. وإذا كانت التقديرات الأولية تشير إلى احتمالات متوسطة إلى أقل من متوسطة للعثور على كميات تجارية من الغاز والنفط في البلوكين 1 و4، وهو ما جرى تلمّسه بالفعل بعد عمليات الاستكشاف، إلا أن الاحتمالات عالية جداً في البلوكات 8 و9 و10 لوجود كميات تجارية تقدر بمليارات الدولارات من الغاز والنفط والمكثفات الغازية.
– تشمل المنطقة التي تدّعي إسرائيل أن لها حقاً فيها، بما فيها المنطقة المعرّفة لبنانية بموجب خط الحدود البحري الجديد الذي طالب فيه الجانب اللبناني أخيراً (1800 كيلومتر مربع بدلاً من 860)، جزءاً من حقل «كاريش» الذي تقوم «إنيرجيان» بتطويره، وتشير تقديرات تل أبيب إلى أنه يحتوي على 1.4 تريليون قدم مربعة من الغاز المؤكد والمحتمل. كما تشمل حقلاً آخر هو البلوك 72، شرق «كاريش»، والذي يحتوي وفقاً للتقديرات على كميات كبيرة من الغاز، وقد منحت إسرائيل شركة «نوبل إنيرجي» الأميركية حق الاستكشاف فيه عام 2019، إلا أن الخشية من رد الفعل اللبناني الأمني حال دون بدء تطويره إلى الآن.
– على خلفية العائد الاقتصادي، فإن إسرائيل معنية بأن تحوز على جزء من هذا الخزان المترامي المشترك بين البلوكات اللبنانية الجنوبية والمتداخل مع المنطقة التي تدعي حقاً لها فيها. إذ تشير التقديرات الأولية إلى أنه أكبر الخزانات على الساحل اللبناني، ما يكفل لدولة العدو عائداً مالياً معتدّاً به، علماً أن هذا ليس هو الاعتبار الأول في تعاطيها مع هذه القضية.
– هذه العوامل (وأسباب أخرى غير اقتصادية) تدفع إسرائيل إلى «حل ديبلوماسي»، بإيجاد مصالح مشتركة مع لبنان من خلال شراكة وإن غير مباشرة عبر أطراف ثالثة، بما يحيّد الثروة الغازية عن أي مواجهة مستقبلية، ويضمن للمستثمرين الخارجيين قدراً من «الأمان» يدفعهم إلى مزيد من الاستثمار.
– تعد هذه «الشراكة» جزءاً لا يتجزّأ من مشروع طموح للتطبيع لاحقاً مع الجانب اللبناني. فعندما تتيح المصلحة الاقتصادية «الغازية» للبنان تجاوز الخطوط الحمر في وجه إسرائيل، قد تتيح له مصالح أخرى، يمكن لإسرائيل والولايات المتحدة أن توجدها، التطبيع في مجالات أخرى، اقتصادية وسياسية وأمنية. وهو الهدف النهائي لتل أبيب. لذلك، فإن إسرائيل معنية بأن تستحوذ على جزء من هذه المنطقة، وإن كانت تسمح لنفسها بهامش لإعطاء لبنان نسبة أعلى مما ستحوز عليه. فالمهم، بالنسبة لإسرائيل، هو أن أي نسبة تحوز عليها ستعني تلقائياً أن أي استثمار لبناني عبر الشركات الدولية سيكون معنياً بإيجاد ترتيبات مبنية على الشراكة الإسرائيلية – اللبنانية، وهذا هدف إسرائيلي أول من شأنه تأمين سلة مصالح تتجاوز الدائرة الاقتصادية.
– الواضح حتى الآن أن «المواجهة الغازية»، بالنسبة لإسرائيل، هي مواجهة ديبلوماسية من دون اللجوء إلى القوة العسكرية أو التهديد بها. وهي مفارقة لا تتساوق مع السياسات الإسرائيلية المتبعة في حالات النزاع في الإقليم، وتحديداً مع الساحة اللبنانية، ما يشير إلى مستوى الارتداع الإسرائيلي أمام لبنان، خصوصاً في النطاق البحري الأكثر هشاشة وحساسية أمام التهديدات. وتكفي الإشارة إلى تأثر قطاع بما قد يؤدي إلى وقف أعمال الحفر واستخراج الوقود الأحفوري، خصوصاً أن التهديدات الإسرائيلية تجر تهديدات مقابلة من حزب الله، وهي تهديدات تتمتع بصدقية عالية جداً في قطاعات التأمين العالمية.
– نتيجة هذا الوضع الإسرائيلي، لم تكن ردود فعل تل أبيب، المباشرة وغير المباشرة، متطرفة كالعادة. وحتى بعدما مدّد لبنان خطه الحدودي التفاوضي البحري بما يقضم ما تسميه تل أبيب حقل «كاريش» وحقولاً أخرى، كان رد الفعل الإسرائيلي متعقلاً، واعتمدت دولة العدو مزيداً من الديبلوماسية، إلى جانب «الوسيط» الأميركي غير النزيه، لدفع لبنان إلى التراجع عن حدّه الجديد، تمهيداً لـ«تصويب المسائل» والعودة إلى المربع الأول في التنازع حول المنطقة القديمة وصولاً إلى الشراكة المنشودة.
وقد جاء رد الفعل الإسرائيلي، الديبلوماسي، في مستويات مختلفة: رفض علني مع «غضب» مستتر من الخطوة اللبنانية، ولكن من دون إطلاق أي تهديدات ما كانت لتتردّد في إطلاقها لولا صدقية التهديد المقابل (سلاح حزب الله)؛ إشراك الولايات المتحدة في الضغط على الجانب اللبناني للتراجع عن الخطوة التي يبدو أنها نجحت إلى حد ما في تجميدها وإن من دون إلغائها؛ ربط التنقيب الفعلي في البلوكات اللبنانية التي كان على الشركات الدولية التي التزمتها أن تبدأ بها بإرادة إسرائيل ومصالحها، حتى في البلوكات الخارجة عن دائرة المنطقة المتنازع عليها؛ تهديدات مبطنة وفي الغرف المغلقة من الجانب الأميركي ضد أشخاص ومؤسسات لبنانية صاحبة تأثير في القرار وعلى طاولة التفاوض غير المباشر مع العدو؛ إضافة إلى تسعير الضائقة الاقتصادية في لبنان ضمن الضغوط الأميركية على الجانب اللبناني.
بناء على هذه المقدمات، يمكن تقدير هدف إسرائيل من إعلان استقدامها سفينة الحفر إلى «كاريش» رغم التنازع عليه، ورغم مخاوفها مما قد يجرّه ذلك من مواجهة عسكرية مع لبنان. وهنا يمكن إيراد أسئلة قد لا تكون هناك إجابات كاملة لها:
هل الإعلان الإسرائيلي، عبر الشركة اليونانية، عن استقدام سفينة الحفر إلى «كاريش» إعلاناً لبدء الحفر فعلاً، أم أنه خطوة تتماشى مع الضغوط لمزيد من «حشر لبنان في الزاوية» ودفعه للتراجع عن موقفه، خشية أن تبدأ إسرائيل فرض إرادتها والأمر الواقع عليه؟ هنا تبرز أهمية الظروف والمتغيرات اللبنانية الآنية، كالانتخابات النيابية والأزمة الاقتصادية، التي تغري إسرائيل، نظرياً، وتدفعها إلى تقدير وضع مغلوط ومن ثم أفعال خاطئة قد تدفع لبنان إلى ردود فعل لا يمكن الامتناع عنها.
مخاطرة كبيرة ستفضي إلى صدام حتمي إذا كانت إسرائيل فعلاً في صدد بدء عمليات الحفر
إذا كانت الفرضية الثانية هي المرجحة، أي أن الإعلان الإسرائيلي هو مقدمة فعلية لعمليات حفر، فسنكون أمام مخاطرة إسرائيلية كبيرة جداً، من شأنها أن تفضي إلى صدام لا يبعد أن يكون متطرفاً، وهو أمر قد يكون حتمياً في حال لم تنفع إجراءات الصد غير العسكرية لمنع الخطوة الإسرائيلية. أما إذا كانت الخطوة «ترهيبية»، وهناك من يرجح أنها كذلك، فستكون في سياق الضغوط المفعلة ضد لبنان، مع ملامسة المحذورات من دون خرقها. علماً أن التغاضي اللبناني عن هذه الخطوة، من دون مواقف وأفعال متناسبة مع خطورتها، قد يفضي إلى قرار إسرائيلي بالانتقال من مجرد الضغط لدفع لبنان إلى تليين مواقفه، إلى الفعل المادي الميداني عبر مباشرة التنقيب العملي. بمعنى أن تغاضي لبنان عن الإعلان الإسرائيلي سيتحوّل لاحقاً مقدمة تغري العدو للاعتداء الفعلي على حقوق لبنان، وهنا ستكون المسؤولية أكبر وأشمل وأكثر تأثيراً في تحديد مواقف العدو اللاحقة، حتى وإن لم تكن نيته خرق الخطوط الحمر اللبنانية.
منطقة حظر حول «كاريش» خشية حزب الله
في خطوة لافتة، وحمّالة أوجه، طلبت وزارة المواصلات الإسرائيلية فرض منطقة حظر إبحار في محيط المنصة العائمة التي أعلن عن أنها ستبدأ الحفر في حقل «كاريش» الغازي «المتنازع عليه» مع الجانب اللبناني. منطقة الحظر المقترحة بقطر 1500 متر، وتهدف إلى تقليص المخاطر الأمنية، خشية أن يلجأ حزب الله إلى استهدافها كونها تقع في منطقة التنازع في الجزء الشمالي من الحقل. ويهدف طلب الوزارة، كما يشير الإعلام العبري، إلى تصنيف القطع البحرية التي تقترب من المنصة، وتشخيص أي نوايا عدائية.
وتحت عنوان «يخشون حزب الله»، أشار موقع «إسرائيل ديفنس» المختص بالشأن الأمني والعسكري إلى حيوية حقل «كاريش» للسوق الإسرائيلية، وإلى أن إلحاق ضرر في الحقل والمنصة قد يؤدي إلى أضرار فعلية للاقتصاد قد تصل إلى التأثير على تزويد الإسرائيليين بالكهرباء!
اللافت في التقرير إشارته إلى طلب وزارة مدنية معنية بالنقل، فيما الجهة ذات الاختصاص التي تقرر أي منطقة حظر بحرية وتنفذ هذا الحظر، وهي الجيش الإسرائيلي، صامتة. كما كان لافتاً التشديد على «حيوية» حقل «كاريش» للاقتصاد الإسرائيلي رغم أن هذا الحقل لم يُفعّل بعد.
فهل يهدف الإعلان عن منطقة الحظر التي يرجح أنها لن تقرّ ربطاً بالسياقات الطبيعية لميزان الردع المتبادل مع لبنان إلى التأثير في الوعي اللبناني ودفعه إلى التراجع عن حقوقه أو جزء منها، من دون إلزام الجيش الإسرائيلي بها، أم أنها خطوة تمهيدية، تنذر بالأسوأ؟
القدر المتيقن أن سلاح حزب الله حاضر بقوة على طاولة القرار في تل أبيب، وهو يعطي مفاعيله الردعية لمجرد وجوده، وحتى من دون استخدامه الفعلي. في الموازاة، يبدو أن إسرائيل معنية بفعل أي شيء للتأثير في الموقف اللبناني، ولو على شاكلة إشارات تثير خشية لبنان، من دون أن تطلق تهديداً مباشراً تتحمل مسؤولية إطلاقه ورد الفعل اللبناني عليه. وفي ذلك أكثر من دلالة.