لا يمكن فصل المواقف الإسرائيلية في هذه المرحلة، وتحديداً تلك التي تصدر عن مسؤولي الصف الأول في تل أبيب، عن سياقات النزاع البحري مع لبنان. وأبرز هذه المواقف حتى الآن ما صدر على لسان وزير الأمن بني غانتس التي أتت في أجواء الذكرى السنوية لاجتياح العام 1982، وكانت مشبعة بالتهديدات، لكنها كانت مشروطة «بإنَّ» و»إذا» نشبت الحرب، وفي حال «اضطررنا». في المقابل، كانت مشبعة أيضاً بدرجة أعلى لدعوات غير مشروطة من أجل إيجاد تسوية ما للنزاع البحري، وهو أمر ينبغي التوقف عند ما يحمله من رسائل ومؤشرات.
إن الاجتزاء الذي شهدته مواقف وزير الأمن الإسرائيلي، في بعض وسائل التواصل وبعض المواقع الإعلامية، كان مخالفاً للرسالة التي أراد غانتس إيصالها. أضف أن الاجتزاء شمل أيضاً كلمة كوخافي التي تحدث فيها عن «قدرات الجيش المتطورة في الدفاع والهجوم»، لكن لم يتم نقل إقراره بحجم الضربات غير المسبوقة التي ستتلقاها الجبهة الداخلية. وفي كلا الخطابين، لم يكن قادة العدو في مقام التمهيد لخيارات عدوانية ابتدائية، ولا الادعاء بأن جهوزية الجيش ارتقت إلى المستوى الذي يؤهّله لخيارات عملياتية برية واسعة، بعيداً عن معادلة الكلفة والجدوى.
أيضاً، لم يرد على لسان غانتس أيّ تهديد مباشر، أو محاولة ردّ على تهديد يتصل بقضية الغاز. بل إن الذي برز هو تجنبه ربط أي تهديد بقضية الغاز، وهو موقف لا يتساوق مع أهمية المسألة وحساسيتها وأولويتها بالنسبة إلى تل أبيب. لكنه مفهوم في خلفياته وأهدافه، إذ يكشف ذلك عن حرص استثنائي لدى تل أبيب بإبعاد قضايا استخراج الغاز عن أي تهديدات متبادلة، خشية أن تتزعزع الثقة الأمنية بهذا المورد الاستراتيجي، وهو أمر ضروري بالنسبة إلى عملية استخراج الغاز وتعزيز صورة إسرائيل كلاعب غازي في المنطقة يؤدي دوراً دولياً في قطاعات الطاقة.
في المقابل، فإن صورة إسرائيل كدولة مقتدرة تملك خيارات عسكرية هي مسألة ضرورية جداً لقوة الردع الإسرائيلية، ولا تستطيع إلا أن تبدو كذلك. واللحظة التي تتبدد فيها هذه الصورة ستكون متساوقة مع حالة الانهيار لكيان العدو. وفي هذا الإطار، ليس جديداً امتلاك إسرائيل قدرات تدميرية هائلة ولا توجيه تهديدات للمدن اللبنانية. بل هذا الخيار متأصل في الاستراتيجية التهويلية الإسرائيلية منذ تأسيسها على أيام بن غوريون. وليس جديداً أيضاً امتلاك إسرائيل قدرات دقيقة ولمدَيات بعيدة، بل هو ما ألفناه عن إسرائيل طوال تاريخها وبما يتناسب مع درجة التطور التكنولوجي الذي يكون متوفراً في كل مرحلة.
لكن الجديد هو في ما يملكه حزب الله من قدرات تدميرية كبيرة جداً تطال المدن الإسرائيلية بما فيها تل أبيب. والجديد أيضاً في ما سمّاه رئيس قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية العميد عميت ساعر، امتلاك المقاومة في لبنان والمنطقة، ما كان حكراً على الدول العظمى من الدقة والمسيّرات التي تقطع مئات الكيلومترات وتصيب أهدافاً موضعية.
غانتس: خيارنا التسوية وإذا اضطررنا فسنعود إلى بيروت!
في السياق نفسه، قد يكون من الضروري التذكير بأن المنشآت الغازية الإسرائيلية وبنيتها التحتية، مكشوفة بالكامل على سلاح المقاومة، وربما يكون استهدافها أسهل وأقل كلفة وجهداً نسبيين من استهداف العديد من الأهداف في البر الفلسطيني المحتل.
في ما خص التهديد باجتياحات برية جديدة تصل الى بيروت، من المفيد التذكير بأن التصدع الذي أصاب سلاح البر، يؤشر إلى تراجع المفاعيل الردعية لإسرائيل بالقياس إلى ما كانت عليه في العقود الأولى. وهو أمر أثار سجالات واسعة داخل الجيش وبين الخبراء وفي معاهد الأبحاث. وسبق أن حذّر منه أيضاً رئيس الأركان الحالي أفيف كوخافي، عندما انتقد في حفل تخرج طيارين تشجيع الشباب على الانخراط في وحدات السايبر وتجنب الخدمة في الوحدات القتالية، بأنه «فقدان للقيم». وقبل ثلاث سنوات، تم الكشف أيضاً عن وثيقة داخل الجيش كتبها نائب رئيس الأركان في حينه اللواء يائير غولان، أوضح فيها بشكل صريح أن «انعدام الثقة بسلاح البر انتقل إلى الشبان، وأن هذا الأمر ألحق ضرراً لا يمكن إصلاحه من حيث ثقة الضباط بأنفسهم وبقدرتهم على الانتصار». وبلغت حالة اليأس إلى حد أن الوثيقة رأت بأنه «…حتى الاستثمارات المالية الكبيرة في سلاح البر لن تفيد». (الأخبار/ 9/2/2019).
بعيداً عن الاستعراضات الإسرائيلية التي تتطلبها المرحلة وظروف الجيش وسوابقه الراسخة في الرأي العام الإسرائيلي ولدى أعدائها، فإن كل الرسائل تهدف إلى تحقيق توازن بعد رسائل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إزاء استخراج الغاز من كاريش والذي أدى إلى تغيير المعادلة في المفاوضات. ومع ذلك، فقد حرص غانتس على التشديد على أن إسرائيل مستعدة للسير بعيداً جداً في مسار التسوية كما في الحدود البحرية مع لبنان.
تؤشر هذه المواقف بمجملها والقرائن المحيطة بها إلى أن قادة العدو أظهروا فهمهم الدقيق لجدية رسائل حزب الله وخطورتها، وإلى أن المعادلة التي كانت سائدة خلال أكثر من عقد من المفاوضات لم تعد قائمة الآن.
كذلك تشير هذه المواقف إلى أن الرد الإسرائيلي الذي سيحمله الموفد الأميركي إلى لبنان لن يكون رداً إيجابياً، في أول جولة تفاوضية غير مباشرة بين الجانبين في ظل المعادلة الجديدة. ولا يعني ذلك أن الرد السلبي سيكون بالضرورة نهاية المفاوضات، وخاصة أن استحقاقات ما بعدها، غازياً ولدى الطرفين، مرتبط بنتائجها.
من ناحية إسرائيل، لا يمكنها، فوراً، أن تقبل بالخط 23 مع زياداته كما ورد في الاقتراح اللبناني المرسل إليها، ولن تسارع إلى القبول به، وهو ما كان منتظراً، لكن أن تقرن اللاقبول بإجراءات عملية ميدانية تخرق الوضع القائم في منطقة التنازع البحري، فقد يدفع ذلك الطرف المقابل إلى المبادرة وتوجيه رسائل مضادة بهدف صدّ هذا التوجه.
على أنه يجب الإشارة الى أن البعض قد يتعامل مع خطوة التغيير الحكومي في الكيان على أنه إشارة الى وقف المفاوضات لأسباب قانونية أو ما شابه، إلا أن ذلك غير صحيح. فالحكومة تملك الصلاحية التامة في مواصلة المفاوضات الغازية مع لبنان، وأي تذرع إسرائيلي في هذا المجال سيكون فقط للتهرب من الموضوع ومحاولة كسب المزيد من الوقت. وهذا ما يوجب على لبنان الرسمي حزم موقفه في هذا المجال، لأنها ستكون محاولة استغباء مكشوفة للطرف اللبناني.