لا ترتبط استراتيجية الانتصار الإسرائيلي على حزب الله، بجمهرة معارضين لسلاحه في لبنان، وإن كانت هذه الجمهرة، من ناحية تل أبيب، خطوة ابتدائية لطالما طالبت بها وعملت عليها، حتى ولو كانت فرصة نجاحها معدومة. رفع الصوت عالياً في وجه السلاح، وإن كان محدوداً في تأثيره وتداعياته، خاصة إن عمل المتجمهرون على ربطه بتردي الأوضاع في لبنان على أكثر من صعيد، هو هدف في ذاته يراهَن عليه إسرائيلياً، وعلى المدى الطويل في حدّ أدنى.
استراتيجيا الانتصار مرتبطة برئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أفيف كوخافي، على نقيض ممن سبقوه في المنصب ممن تبنوا استراتيجيات انتصار مغايرة في وجه حزب الله قبل عام 2006 وما بعده.
نشرة «مباط» الصادرة دورياً عن مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية، تناولت هذه النقطة تحديداً، مشيرة إلى أنها تعبر عن رؤية مغايرة من الناحية الاستراتيجية والتنفيذية، عمّا سبق للجيش الإسرائيلي أن اعتمده في حروبه السابقة، وتحديداً في حروبه ضد حزب الله، كما ضد المقاومة في قطاع غزة.
يرد في النشرة أن كوخافي هو أول من سعى لإخراج إسرائيل من «الفخ الأمني» واللاانتصار الذي تعاني منه، وذلك عبر توجهه نحو الاستفادة من ميزة إسرائيل التكنولوجية ليبلور عقيدة قتالية حاسمة. وبحسب «مباط»، تهدف استراتيجية كوخافي إلى إنهاء الحرب بانتصار سريع وواضح، والقضاء التام على القدرات القتالية للعدو، مع الحد الأدنى من الضرر بالجيش الإسرائيلي.
الهدف كما ورد، هو الهدف نفسه الذي ورد في الكتابات والدراسات وكذلك خطابات كبار ضباط الجيش الإسرائيلي وجمهور الخبراء العسكريين، منذ عام 2006 في حد أدنى. فـ«طائرة الإف 16 ستقاتل إلى جانب بندقية الأم 16… والانتصار سيكون حاسماً وواضحاً ولا لبس فيه، إن نشبت الحرب في مواجهة حزب الله». هذا التأكيد ورد على لسان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي عام 2007 (وزير الخارجية الحالي) غابي اشكنازي. فإما أن يكون الجيش الإسرائيلي في حينه كاذباً ويخفي الحقائق، وإما أن يكون كوخافي هو الكاذب، أو كلاهما معاً.
ما بين اشكنازي وكوخافي، عدد من رؤساء الأركان للجيش الإسرائيلي، من بينهم وزير الأمن الحالي بني غانتس، وكل منهم كانت لديه استراتيجية «غير مسبوقة» للحرب المقبلة. لكن من ناحية عملية، اعتمدت إسرائيل بعد عام 2006، رغم كل الكلام الصادر عن الحرب المقبلة والانتصار وكذلك اللاانتصار فيها، استراتيجية «المعركة بين الحروب»، التي جاءت على خلفية الحقائق المستخلصة من حرب عام 2006، وكذلك المواجهات المتكررة مع قطاع غزة. وإحدى هذه الحقائق هي تعذر القضاء على حزب الله عسكرياً، ما لم تكن إسرائيل مستعدة لاجتياح لبنان والبقاء فيه، أي استنساخ اجتياح عام 1982، والعودة إلى المستنقع الذي سحبت نفسها منه عام 2000.
واحدة من الحقائق المستخلصة من حروب إسرائيل، أنه مهما بلغت النتيجة المباشرة للمواجهات العسكرية مع العدو، والمقصود حزب الله، فستنتهي ليعود الواقع نفسه من جديد من دون قدرة على الحؤول دونه، أي عودة حزب الله من جديد، وبقوة أكبر مما كان عليها. وهذه النتيجة تكاد تكون من مسلمات الدروس والعبر المستخلصة أيضاً من حروب إسرائيل الأخيرة، وفي المقدمة حرب عام 2006.
للمعركة بين الحروب ساحات مواجهة غير عسكرية وأمنية، منها إيجاد بيئة ضاغطة على حزب الله
المعركة بين الحروب تعني، سواء نجحت في أهدافها أم فشلت فشلاً كاملاً أو جزئياً، أن الانتصار كما يتردد على ألسنة القادة العسكريين في تل أبيب، متعذر ولا يمكن الوصول إليه، ما لم تكن إسرائيل مستعدة لتلقي خسائر لا تريدها ولا تقوى عليها، وفقاً لمبناها وثقافتها وتركيبها الجمعي.
على هذه الخلفية، المعركة بين الحروب تعني وجوب أن تعمل إسرائيل على منع نشوب الحرب المقبلة أو إبعادها في أقل تقدير، وذلك على خلفية أن لا انتصار إسرائيلياً فيها، وأن جلّ ما يمكن تحقيقه من الحرب إنْ نشبت هو تأجيل موعد الحرب التي ستليها سنوات إضافية.
وإذا كانت هذه هي النتيجة، فعلى إسرائيل منع الحرب التي ستعود وتتكرر، والامتناع عن الوقوع فيها، عبر تقليص قدرة الطرف الآخر على خوضها، من خلال منع تزوده بوسائل قتالية متطورة أو عبر فرض ظروف عليه، اقتصادية وسياسية… تضغط على صانع القرار فيه (حزب الله)، ليتريث كثيراً وطويلاً قبل أن يتخذ قرارات عملية في مواجهة إسرائيل، سواء عبر العمل المبادَر إليه ابتدائياً، أو ما يتعلق بالعمل العسكري الرديف، وكذلك الاستعداد لاستخدام القوة العسكرية إن أرادت فرض إرادتها على لبنان.
وإن كان الحديث يطول عن المعركة بين الحروب، إلا أن تبنيها من قبل المؤسستين العسكرية والسياسية في مواجهة حزب الله، يعني إقراراً من تل أبيب الرسمية بموجباتها والأسباب التي دفعت إلى تبنيها: لا انتصار في الحرب المقبلة، أما إذا نشبت، فستكون نتيجتها إبعاد الحرب التي تعقبها.
مع ذلك، واحد من أهم مكوّنات المعركة بين الحروب، هو التهديد بالحرب التي خصصت هذه الاستراتيجية لمنع نشوبها. وتخويف الطرف الآخر من ويلاتها، موازٍ تماماً لمنع الآخر من حيازة وسائل قتالية متطورة، وتخدم الهدف نفسه: منع نشوب الحرب أو تأجيلها أكبر فترة ممكنة. وهذا ما يفسر كثرة التهديدات الصادرة عن تل أبيب، واستنساخها دورياً.
وللمعركة بين الحروب ساحات مواجهة غير عسكرية وأمنية، ومنها السياسي والاقتصادي وإيجاد عوامل داخلية وخارجية ضاغطة على الطرف الآخر ويمكن الرهان عليها لإشغاله عن إسرائيل، وتحديداً عن تعظيم القوة العسكرية. من بينها كذلك، إيجاد بيئة ضاغطة على العدو (حزب الله)، عبر تأليب الداخل اللبناني عليه، سواء بيئته المباشرة أو تلك الأبعد قليلاً عنه، في لبنان.
مع الأزمة المالية والاقتصادية التي سبّبها مَن سبّبها للبلد، باتت الفرصة مؤاتية للتأليب، حتى وإن اقتصر ذلك، من ناحية التأثير الفعلي، على التشويش الإعلامي ضد المقاومة. وهي نتيجة وتفسير يصحّان سواء كان معارضو المقاومة وسلاحها يعملون بالأصالة عن أنفسهم، أو بالوكالة عن العدو.
في خلاصة نشرة مركز بيغن السادات عذر مسبق لكوخافي إن تعذّر عليه تأمين مستلزمات «خطة الانتصار» على حزب الله، بعد ربطها بفيروس كورونا، من دون السؤال عن السنوات السابقة، التي كانت خالية من الفيروس، إن صح هذا ذلك: «ما هو مطلوب لتطبيق هذه الاستراتيجية متاح ويمكن الحصول عليه في وقت قصير نسبياً، لكن كل ذلك مرتبط برصد ميزانيات ضخمة. ومن المشكوك فيه إن كانت أزمة كورونا ستسمح قريباً لإسرائيل بتخصيص الموارد المطلوبة».