لا تُخفي اسرائيل حقيقة أن اهتمامها بتطورات الساحة اللبنانية ينبع مما تنطوي عليه من تهديدات وفرص تتصل بأمنها القومي واستراتيجيتها الاقليمية. ولا فرق في ذلك بين ما إذا كانت هذه التطورات نتيجة تخطيط مسبق أو نتيجة ديناميات داخلية. ولا يُتوقع من تل أبيب أو واشنطن الاكتفاء بمراقبة أي مسار سياسي أو شعبي من بعيد من دون أي تدخل لضمان توجيهه بما يحقق مصالحهما، أياً كانت انطلاقته أو شعاراته أو أهدافه. ويصبح الامر مرجحاً ومحسوماً بقدر علاقته وتأثيره على أولويات اسرائيل الامنية والاستراتيجية.
وقد أجمل أحد أهم معلقي الشؤون الامنية الاسرائيلية، يوسي ميلمان، الرؤية التي تنطلق منها اسرائيل في تحديد خياراتها ورهاناتها ازاء تطورات الساحة اللبنانية، بشكل مباشر أو عبر الولايات المتحدة، وحدد بشكل صريح ومباشر، في مقالة تحت عنوان «العيون على حزب الله: كيف تنظر اسرائيل الى المظاهرات في لبنان» أن «إسرائيل ترى لبنان قبل أي شيء على أنه أرض حزب الله». ومن الواضح أن الحزب في الوعي الاسرائيلي، على المستوى السياسي والامني والشعبي، هو قوة ردع استراتيجي نجح حتى الآن في كبح خيارات تل ابيب وواشنطن بإحداث تغييرات جذرية في الساحتين اللبنانية والاقليمية. كما أنه مصدر تهديد استراتيجي للعامود الفقري للكيان (البنى التحتية الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية). وبحسب قائد الكليات العسكرية في جيش العدو سابقاً والمفوّض السابق لشكاوى الجنود، اللواء إسحاق بريك، يرتقي التهديد الصاروخي لمحور المقاومة الى مستوى «تهديد وجودي من نوع جديد» على اسرائيل، كونه قادراً على «تحويلها إلى منطقة كارثة لا يمكن العيش فيها».
الحراك الشعبي والسياسي الذي يشهده لبنان هو، بعيون إسرائيلية، مستجَدّ يمكن الرهان عليه ومحاولة توجيهه والاستفادة منه، وتحديدا في هذه المرحلة بالذات بعدما استنفدت اسرائيل – ومعها الولايات المتحدة – الكثير من الخيارات والاوراق الامنية والسياسية في الساحتين المحلية والاقليمية للقضاء عليه أو اضعافه. وما يضفي عليه أهمية، من منظور اسرائيلي، أنه أتى في لحظة مفصلية أقر بها قادة العدو وخبراؤه بأن حزب الله، وحلفاءه الاقليميين، نجحوا في فرض معادلة قيدت اسرائيل على المستوى الاستراتيجي، ويحققون المزيد من التقدم الاقليمي في موازاة انكفاء اميركا بعد فشل رهاناتها وخياراتها في مواجهة الجمهورية الاسلامية في ايران.
على هذه الخلفية، أتى وصف رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو للحراك الشعبي في لبنان، بعد نحو عشرة أيام من انطلاقه، وأمام جلسة الحكومة، على أنه (الى جانب العراق) «هزة ارضية». وأجمل بذلك الرؤية الاسرائيلية وتقديراتها ورهاناتها ازاء مسار التطورات في لبنان، وكشف عن وجهة مساعيها وتوظيفها. وتنبع خصوصية هذا الوصف – المفهوم من أنه نفسه الذي اطلقته إسرائيل رسميا على الاحداث التي مرت بالعالم العربي. وتم تبنيه بعد توصية الاجهزة الامنية، في مقابل تعدد الاوصاف التي ترددت في بداية الاحداث، انطلاقا من تفاوت التقديرات، بين من رأى انها تتجه نحو انتاج بيئة اقليمية تشكل فرصة تاريخية لإسرائيل، وآخرين تخوفوا من أن تشكّل تهديداً لإسرائيل. وتم في حينه اختيار مفهوم «الهزة الارضية” كونه حيادياً بذاته، انطلاقا من أنه يمكن أن تنتج عن هذه الهزة فرصة أو تهديد. لكن اشارة نتنياهو خلال جلسة الحكومة بأن هذه الهزة تجري في «المناطق التي تسيطر عليها ايران» عكس رهانه على كفة الفرصة بالنسبة لإسرائيل.
بالموازاة، أجمل العرض الذي قدَّمه ميلمان، قبل أيام في مقالة له في موقع «ميدل ايست آي» في لندن، للسيناريوهات والرهانات التي تسود في اسرائيل ازاء تطورات الساحة اللبنانية. لكنه كان أكثر تفصيلاً وأقل تفاؤلاً مما انطوى عليه وصف نتنياهو لما يشهده لبنان (هزة أرضية في مناطق تسيطر عليها ايران). وليس بعيداً عن حالة «كي الوعي» الذي حفرته مفاجآت حزب الله في الساحة الاسرائيلية، لفت ميلمان الى أن تل أبيب تقف على مفترق طرق ازاء ما يشهده لبنان من تطورات، موضحاً ذلك بالقول إنها «بعيون الاسرائيليين يمكن أن تؤدي الى نتيجتين متناقضتين». وأقر ميلمان أنه «من الصعب التنبؤ بأي طريق سيسلكه لبنان». لكنه بالطبع «يمكن أن يحقق ربحاً كبيراً بحسب النتيجة التي ستُفضي اليها».
عكست مروحة الاحتمالات التي أوردها ميلمان حالة الحذر التي تسيطر على تقديرات المعلقين والخبراء على خلفية سلسلة طويلة من التقديرات والرهانات الخاطئة خلال السنوات الماضية في مواجهة حزب الله وسائر أطراف محور المقاومة. وهو ما أشار اليه ايضا، ميلمان، محذراً من «سوء الفهم لدى المحللين الاستخباريين وحتى الخبراء والاكاديميين المستقلين التي تذكّرنا بالاخفاقات السابقة في ايران والعالم العربي».
أجمل ميلمان السيناريوهات التي تحضر في الساحة الاسرائيلية، بنوعين متضادين. الاول يمكن أن يؤدي الى «اضعاف… حزب الله»، وعلى النقيض منه أن «يخرج حزب الله أقوى». ولفت الى أن السيناريو الأول «سيعود بالنفع على المصالح الاسرائيلية»، مضيفاً أن حزب الله ليس فقط عدواً لدوداً لإسرائيل، بل يعتبر نفسه ايضاً حركة متجذّرة في لبنان. وفي ضوء ذلك، لفت ميلمان، الى أنه «لا عجب ان قادة الاجهزة الامنية الإسرائيلية تشجعّهم حقيقة أن الشيعة اللبنانيين يتظاهرون في شوارع بيروت، والاهم من ذلك في بعلبك والنبطية، أي معقلي حزب الله». وتوقف ميلمان ايضا عند الاساءات التي تم توجيهها الى الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، مؤكدا على أنها «تدغدغ مسامع الإسرائيليين، وشتمه نعمة لإسرائيل». ومن الواضح أن ميلمان انطلق في هذا الوصف لانعكاس استهداف السيد نصر الله، في الساحة الاسرائيلية، من ادراك دقيق للأهداف (اشار في مقالته الى حديث مع جهات استخبارية اسرائيلية) الكامنة في المس واستهداف شخصية السيد نصر الله، خاصة أنه تحوّل الى «مركز ثقل» للمقاومة بحسب مجلة جيش العدو «معرخوت» («الأخبار» – 26 تشرين الثاني 2018). عكس هذا التقييم لدور الأمين العام لحزب الله مستوى حضور تأثيره – لدى مؤسسات العدو – في وعي بيئة المقاومة وبلورة خياراتها ومواقفها. وسبق أن ألمح الى هذا الاستهداف ايضاً رئيس أركان الجيش السابق غادي ايزنكوت في محاضرة له عندما كان يتولى منصب قائد المنطقة الشمالية، عام 2010، بالقول إن «الشيعة مركز ثقل حزب الله»، ويعني ذلك في قواعد الصراع أنها هدف مباشر ينبغي استهدافه بكافة السبل المتاحة، انطلاقاً من أن إسقاطها يعني الانتصار في المعركة.
السيناريوهات الاسرائيلية لمآلات الحراك: اضعاف حزب الله أو أن يخرج منه أقوى
وتابع ميلمان أن السيناريو الثاني الذي يواجه لبنان، بنظر الإسرائيليين، هو أن الحراك الذي يشهده لبنان يمكن أن يأتي بنتائج عكسية «فيتم سحق المظاهرات أو أن تخبو ببطء، ويخرج حزب الله اقوى وحتى اكثر هيمنة على البلاد». ويؤكد معلق الشؤون الأمنية بذلك على وجود خشية محتملة في الساحة الاسرائيلية من مآل التطورات اللبنانية. ومن الطبيعي كما هو نمط التفكير الاسرائيلي – والادق المخاوف الاسرائيلية – في مثل هذه المحطات، من أن يوجه حزب الله ضرباته العسكرية الى الحدود الاسرائيلية.
وختم معلق الشؤون الامنية مقالته بأنه «بغض النظر عما ستفضي اليه المظاهرات اللبنانية، سيبقى لبنان – من منظور إسرائيلي – قبل أي شيء (آخر) أرض حزب الله. وحزب الله بالنسبة لإسرائيل يساوي ايران بطموحاتها للهيمنة والسيطرة في المنطقة». وهو ما يعني أن معيار اسرائيل الأول والأخير في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها الصراع في المنطقة، في الرهان والتخطيط والموقف والخيار، من أي مستجد اقليمي، هو مقدار تأثيره السلبي على من تراه تهديداً استراتيجياً ووجودياً لها.