يواصل الجيش الإسرائيلي «استنفاره الانكفائي» في شمال فلسطين المحتلة، منتظراً رد حزب الله الذي بات محتوماً، بحسب التقديرات الاسرائيلية، مع الأمل بأن لا يكون «منفلتا» وإن طالت فترة الانتظار. في الموازاة، تعمل إسرائيل على تخفيف تبعات صورة التراجع إلى الخلف، ولا تطلق تهديدات «رنانة» تقلق المستوطنين وتسقط صورتها الردعية في «ساعة الاختبار» بعد تنفيذ الرد.
في المقلب اللبناني، لا فائدة تضاف إنْ جرى التأكيد أنّ تبعات الرد – مهما عمل العدو على تعظيمها – تبقى أقل بكثير من تبعات امتناع حزب الله عن الرد. وهي حقيقة قائمة لا لبس فيها وغير قابلة للنقض، وأي بحث في إمكان الرد من عدمه، غير ذي صلة ومنفصل عن الواقع.
في جانب آخر، يشار إلى سياقات قد تكون هذه المرة مختلفة نسبياً عن مرات سبقت ردّ حزب الله على اعتداءات إسرائيلية أريد لها تغيير المعادلات (أو كان من شأن الـ«لا رد» عليها تغيير المعادلات)، علماً بأن الاستعدادات من ناحية العدو لتلقّي الرد واضحة وعلنية، وتترجم ميدانياً على أكثر من صعيد، كما ورد على لسان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي خلال جولته شمالاً على الوحدات العسكرية، بضرورة استعداد الجيش لرد محتمل من حزب الله ومطالبة قيادة المنطقة الشمالية بتقليص تحرك القوات على الحدود كي لا تتحول إلى أهداف لحزب الله.
بالطبع، تصدر عن إسرائيل تهديدات باتت تُعد تقليدية في حالات مماثلة. وهذه التهديدات يراهن العدو عليها – نظرياً في حد أدنى – لتقليص حافزية الطرف المقابل للعمل ضده. وفي حساب النتيجة النهائية للرد والرد على الرد، وما يمكن أن يعقبهما، تبقى تهديدات إسرائيل المتفلتة في مرحلة انتظار الرد، جزءاً لا يتجزأ من النتيجة النهائية، وتؤسّس سلباً للمستقبل، خاصة إن لم تقرن أقوالها بأفعال.
على هذه الخلفية جاءت التهديدات بالرد على الرد عامة جداً، من دون تفصيلات، ولا تشمل تهديدات متطرفة تختار كلماتها بعناية في محاولة للتأثير في وعي الطرف الآخر، على شاكلة إرجاع لبنان عشرين وثلاثين وخمسين عاماً إلى الوراء، وصولاً إلى إرجاعه إلى «العصر الحجري».
في ذلك أيضاً، تأتي رسائل إسرائيل إلى حزب الله، عبر وسطاء، بأنها لم تكن تعلم أن الشهيد علي محسن كان موجوداً في الموقع الذي استهدفته في سوريا الأسبوع الماضي. هذه الرسالة التي نشرت قناة «الميادين» أبرز ما جاء فيها، تلقّاها الجمهور اللبناني والمستوطنون أيضاً على أنها رسالة تراجع إسرائيلي أمام حزب الله (وهي كذلك)، ومحاولة من تحت الطاولة للتأثير في مستوى ردّه عبر تأكيد انتفاء القصد الإسرائيلي المسبق لاغتيال محسن، علماً بأن مضمون الرسالة، وإنْ جاء مصحوباً بتهديدات، هو في حدّ ذاته ثمن قد يفوق في كثير من جوانبه الرد المادي نفسه، خاصة أنه يأتي في مرحلة انتظار الرد الذي تدرك إسرائيل حتميّته.
واحد من التعليقات اللافتة إزاء رسالة التراجع ورد في صحيفة «ميكور ريشون»، التي قالت إنها لا تتساوق مع مواقف قالها رئيس أركان الجيش الاسرائيلي أفيف كوخافي، في الغرف المغلقة في الماضي القريب، أي قبل سقوط الشهيد محسن: «أيّ ضرر يلحق بشعرة واحدة من رأس جندي أو مدني إسرائيلي، فسيكون الرد عليه بلا قيود وساحقاً». وبحسب مراسل الصحيفة للشؤون العسكرية، «كوخافي غير معني بسياسة الاعتذار التي انتهجها الذين سبقوه في المنصب». النتيجة هنا تؤكّد وجود «سياسة الاعتذار»، كما صحّة تقارير سابقة نشرت في لبنان (في مرحلة انتظار ردود سابقة) تتحدث عن «رسائل تهدئة» بمستوى اعتذار صدرت كما يرد في تقرير الصحيفة من رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت، وممن سبقه في المنصب بني غانتس، الذي يتولى حالياً منصبي رئيس الحكومة البديل ووزير الأمن. وفي ذلك دلالات ردعية كبيرة جداً عن مراحل سابقة، ومؤشرات إلى المرحلة الحالية.
واضح أن إسرائيل تخوض معركتين منفصلتين ومتحدتين في الوقت نفسه، شكلاً ومضموناً: معركة الصورة ومحاولة فرض الإرادة في مرحلة انتظار الرد، ومعركة الرد نفسه، وهو ما يخيّم عليه «لا يقين» نسبي من ناحية إسرائيل، ليس بما يتعلق بحتمية قرار الرد وتنفيذه، بل بما يتعلق بشكله وأسلوبه ومستوى إيذائه وتوقيته.
في المواقف، اكتفى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي طلب من وزرائه الصمت، بالرد على أسئلة الإعلام العبري وتساؤلاته، قائلاً: «نعمل طوال الوقت لمنع التهديدات الإيرانية من سوريا، ونحن مستعدون للسيناريوات كافة»، فيما أكد وزير الأمن بني غانتس أن إسرائيل غير معنية بتصعيد الوضع، محذراً في الوقت عينه «الأعداء من اختبار الجيش الإسرائيلي». أما رئيس الأركان أفيف كوخافي، فشدد خلال لقائه نظيره الأميركي مارك ميلي على أن «الجيش الإسرائيلي سيعمل ما يجب لإزالة أي تهديد قد يعرّض إسرائيل وسيادتها للخطر».
في الإجراءات، تسود حالة من الانكفاء الإسرائيلي المناطق القريبة من الحدود، بما يشمل المستوطنين والوحدات العسكرية على اختلافها، الأمر الذي أثر على حركة التنقل بين المستوطنات ومراكز الانتشار العسكري، إلى حد المنع الكلي عن التنقل، وكذلك الوجود المباشر في عدد من المقاطع.
نشر العدو حواجز لمنع القوات العسكرية من الوصول إلى المناطق القريبة من الحدود
وذكرت مصادر عسكرية لموقع معاريف أن الجيش نقل بعض القوات إلى العمق الإسرائيلي بعيداً عن المواقع الموجودة مباشرة على طول الحدود مع لبنان، كي لا يكونوا هدفاً للرد من قبل حزب الله. وأشارت إلى أن «التراجع جزء من استعداد الجيش الإسرائيلي تحسباً للرد الانتقاميّ المتوقع أن يستهدف قوات عسكرية إسرائيلية، من دون المس بالمدنيين». وفي إجراء لافت ويستند إلى انقلاب في معادلة الحماية، بات الجيش الإسرائيلي يعتمد على الوجود المدني للمستوطنين لحماية نفسه، فيما يُعَدّ قربهم منه – وهو الموكل بحمايتهم – خطراً شديداً عليهم ويوجب عليهم الابتعاد عنه. فوفقاً لصحيفة «جيروزاليم بوست»، «في حين لا توجد قيود حالياً على حركة المدنيين، هناك احتمال أن يتم تقييد المزارعين في عدد محدود من المناطق بالقرب من السياج. إضافة إلى ذلك، سيتم إغلاق الطرق المؤدية إلى عدد من التجمعات (السكانية) حيث يكون للجيش وجود، ما يعرّضهم لأضرار هجوم (من حزب الله)، إذ سيطلب من السكان التنقل عبر طرق بديلة لدخول مستوطناتهم».
حواجز على الطرقات
وذكرت مصادر عسكرية إسرائيلية، في حديث إلى القناة الـ 12 العبرية، أن تعذّر معرفة الجيش الإسرائيلي للطريقة التي سيرد بها حزب الله، يدفع إلى الاستعداد لمواجهة أي فرضية يمكن تصورها، ومن بينها مروحة سيناريوات، من بينها إطلاق صواريخ كاتيوشا وعملية قنص جنود أو إطلاق صاروخ ضد الدروع على آلية عسكرية.
ووفقاً للمصادر، يشدّد الجيش الإسرائيلي على تقليص الأنشطة والتنقل بين المناطق، إذ إضافة إلى النشاط الجوي والجهد الاستخباري، عمد الجيش إلى نشر حواجز ونقاط تفتيش في الميدان لتحقيق هدف واضح: منع القوات العسكرية من الوصول إلى المناطق القريبة من الحدود، كي لا تتحول إلى أهداف أمام العدو، في الجانب الثاني من الحدود.