في الشكل، يُمثّل احتفال البيت الأبيض أمس تتويجاً لسلسلة «الهدايا» التي منحها النظام السعودي، عبر حليفه الإماراتي ووكليه البحريني، للكيان الإسرائيلي. وفي الجوهر، يُمثّل التوقيع على «اتفاقيات السلام» محطّة تأسيس إضافية في مخطّط استهداف فلسطين والمنطقة، والذي يمكن عرض مروحة واسعة من أهدافه ونتائجه المحلية والإقليمية والدولية. وإذا كان لكلّ من الكيانات والدول والجهات المشتركة فيه مصالحها التي تتقاطع عند هدف تصفية القضية الفلسطينية، فإن المؤكد أن هذا المخطّط سينقلب على أصحابه، وما إدراك شعب فلسطين، أكثر من أيّ وقت مضى، أن لا خيار أمامه إلا المقاومة والانتفاضة، سوى الدليل الأكبر على ذلك.
تهدف تلك المحطّات، التي بات من الواضح أنه ستتبعها أخرى، من ضمن ما تهدف، إلى تجريد الفلسطينيين من الرهان على أيّ حاضنة عربية، وإشعارهم بأن الطوق بات محكماً حولهم، بهدف إيهامهم بأنهم أمام خيارين حصراً: إمّا استمرار الواقع الاحتلالي القائم مع أثمان متصاعدة اقتصادية وأمنية وسياسية، أو القبول بالسقف الذي يضعه كيان العدو، والمتمثّل في تكريس الاحتلال وشرعنته مع بعض التسهيلات الاقتصادية المضبوطة التي تعزّز بقاءهم في إطار الأسر الصهيوني. وتحاول هذه المنظومة العربية الضغط على الشارع الفلسطيني من أجل جعل الكيان العبري جزءاً طبيعياً من المنطقة، وإضفاء قدر من المشروعية على التحالفات معه، تحت مظلّة الهيمنة الأميركية. على أن من أهمّ ما سيترتّب على هذه المرحلة التاريخية تحديداً، أن المواقف الرمادية تحوّلت بوضوح إلى عملية طعن جلية للشعب الفلسطيني، وتموضع معادٍ لقضيته.
يستهدف احتفال الأمس في البيت الأبيض، بما يُمثّله من تتويج للاتفاقيات التسووية، قضية فلسطين وشعبها، من بوّابة تعزيز الادّعاء الأميركي – الإسرائيلي بأن «السلام الإقليمي» ممكن من دون حلّ قضية فلسطين، حتى ولو تحت سقف «أوسلو» (المرفوض طبعاً). ولتبرير هذا التوجّه، كان لا بدّ من الترويج لتهديد خارجي، هو إيران، حتى لو كان داعماً لمقاومة فلسطين بالمال والسلاح والموقف، ويدفع من أجل ذلك الأثمان الاقتصادية والسياسية. لكن لأن المُطبّعين لا يستطيعون مجاراتها في هذا الخيار، وللتغطية على خلفياتهم، يعمدون إلى التشكيك في نياتها وأهدافها، في الوقت الذي يستطيعون فيه «سلب» إيران راية فلسطين عبر تبنّي قضية الأخيرة ودعم شعبها، وبذلك سيجد الفلسطينيون بتياراتهم كافة في البيئة الإقليمية العربية الحاضنة، الاستراتيجية التي تُعزِّز موقفهم المقاوم وحتى التفاوضي (مع تأكيد رفض هذا المنهج في مواجهة الاحتلال الصهيوني). وهكذا، يتمّ الجمع بين «قطع الطريق» على إيران، ودعم قضية فلسطين. لكن حقيقة موقف المُطبّعين، وخشيتهم على عروشهم، قبل تبعيتهم للولايات المتحدة الداعمة للاحتلال الإسرائيلي، هما اللتان حالتا وتحولان دون تبنّيهم خيار التحرير. النتيجة الإضافية لهذا المسار التطبيعي، هي سلب الأنظمة العربية ورقة مطالبة الأمم المتحدة بالضغط على إسرائيل للقبول بأيّ تسوية، من دون إغفال حقيقة أن ما حَلّ بشعب فلسطين لم يكن إلا ترجمة لمخططات تمّ طبخها في الدوائر الدولية.
يستهدف الاحتفال تعزيز الادّعاء بأن «السلام» ممكن من دون حلّ قضية فلسطين
كذلك، يستهدف تصعيد المسار التطبيعي إحداث ثغرة في الحراك الفلسطيني الرسمي والدبلوماسي الهادف إلى بلورة موقف سياسي خارجي لتطويق مخطّط «صفقة القرن»، إذ إن ما يقوم به رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، يرمي إلى القول إن إسرائيل باتت مقبولة عربياً، وبالتالي تهيئة الأرضية الدولية لتقبّل تنفيذ مخطّط الضمّ. وضمن هذا الإطار، يأتي حديثه عن أن «إسرائيل دولة غير معزولة» نتيجة هرولة أنظمة التخاذل إلى التطبيع معها. ولإنجاح ذلك المخطّط، ستتعزّز مساعي عزل شعب فلسطين، وخنق مقاومته، وتشويه قضيته. وبدلاً من أن يملك الفلسطيني حقاً مفتوحاً في التنقل بين بلاد العرب، يتباهى نتنياهو بزياراته للعديد من الدول العربية، وبإجرائه اتصالات سياسية «مع كلّ الإقليم، من الأفضل أن نسكت عنها الآن»، ويؤكد أن «دولاً عربية وإسلامية كثيرة ستنضمّ إلى اتفاقات سلام».
على مستوى الداخل الإسرائيلي، تبرز الهوّة بين تصدّر احتفال البيت الأبيض الاهتمامات السياسية والإعلامية، وبين أولويات الجمهور الإسرائيلي في هذه المرحلة، والتي تبدو في مكان آخر بفعل الواقع الاقتصادي والصحي، وفي ظلّ إدارة نتنياهو الفاشلة لأزمة «كورونا»، كما رأت صحيفة «جيروزاليم بوست». ومن هنا، تنبع أهمّية الاستثمارات الموعود بها نتنياهو من قِبَل أنظمة التطبيع الخليجي، والتي ستتدفّق على الكيان في أعقاب هذه الاتفاقيات. مع ذلك، رأى رئيس تحرير صحيفة «هآرتس»، آلوف بن، أن «فشل نتنياهو المدوّي في إدارة أزمة كورونا، ومحاكمته الجنائية في ثلاثة ملفات فساد، وصناعة التحريض والأكاذيب، لا ينبغي أن تُقلّل من أهمية ورمزية رفع أعلام إسرائيل على السفارات في أبو ظبي والمنامة، وأعلام دول الخليج في تل أبيب، ومشهد الأراضي السعودية للموجودين في رحلات جوية من إسرائيل إلى شرق آسيا وأثناء عودتهم».
أشكنازي ينقذ نتنياهو بشروط
اكتشف نتنياهو، وهو في الولايات المتحدة، أنه ليس مخوّلاً التوقيع على الاتفاقيات مع البحرين والامارات، لأن القانون ينصّ على أنه «ينبغي توكيل وزير الخارجية أو مَن يقوم بتعيينه من أجل التوقيع باسم الحكومة على اتفاقيات ومعاهدات دولية»، وهو ما كاد يوقعه في حرج دبلوماسي شديد. نتيجة ذلك، اضطرّ رئيس وزراء العدو إلى الطلب من وزير خارجيته، غابي أشكنازي، توكيله كي يتمكّن من التوقيع على الاتفاقيتين، بعدما تَعمّد إبعاد الأخير عن حضور المشهد الاحتفالي. ووافق أشكنازي على منح نتنياهو هذا التوكيل، بشرط أن تشمل الاتفاقيتان بنداً ينصّ على أنه تنبغي مصادقة الحكومة الإسرائيلية عليهما قبل بدء سريانهما. يشار إلى أن رئيس وزراء الاحتلال لم يشرك أحداً من وزرائه، وخاصة أشكنازي ووزير الأمن بني غانتس، في الاتصالات والمحادثات التي سبقت الإعلان عن الاتفاق مع الإمارات، كما امتنع عن اصطحاب أيّ وزير معه إلى واشنطن، نتيجة حرصه على احتكار الرصيد لنفسه، وعدم إشراك أيّ منافس أو صديق له في «الإنجاز».