رحم الله المفكر اللبناني الراحل ميشال شيحا. منذ مطلع الأربعينات من القرن الماضي رفع الصوت عالياً محذراً من ان إقامة اسرائيل يشكل أكبر خطر على لبنان، دوراً ورسالة.
جمّد هذا الخطر موقف الدول الاسلامية والعربية من اسرائيل ومن مبدأ التطبيع معها. فأدى عزلها الى إضعاف خطرها وتحجيمه. ولكن عندما خرقت تركيا المجموعة الاسلامية وجعلت من اسرائيل شريكها التجاري والمالي الأول في المنطقة، بدأ لبنان يتحسّس الخطر ويعيش مضاعفاته.
قبل ذلك تخوّف لبنان من هذا الخطر عندما عقدت مصر معاهدة السلام مع اسرائيل في عام 1979. وكانت ترجمة ذلك الاجتياح الاسرائيلي في عام 1982، وما تلاه من سلسلة طويلة من الاعتداءات. الا ان المعاهدة مع مصر نجحت في وقف الحرب ولكنها لم تنجح في تطبيع العلاقات. فالمصريون ظلوا ينظرون الى اسرائيل على انها عدو. ولم يتعاملوا معها سياحياً ولا اقتصادياً. ورحم الله البابا شنودة بابا الاقباط الذي حرّم على رعيته الحج الى القدس في ظل الاحتلال الاسرائيلي للمدينة المقدسة. حتى انه رفض قبول دعوة الرئيس الراحل انور السادات لحضور مناسبة اجتماعية بمناسبة زيارة الرئيس الاسرائيلي السابق للقاهرة. ودفع ثمن ذلك تعرضه للإضطهاد الرسمي.
عملت اسرائيل على تصدير «البيض» الى مصر بأسعار اغراقية زهيدة تقلّ عن نصف ثمن الانتاج المحلي. مع ذلك قاطع المصريون – الغلابة – البيض المستورد لأنه اسرائيلي حتى فسدَ. مما اضطر اسرائيل الى وقف التصدير. حتى السياح الاسرائيليون توقفوا عن زيارة مصر بسبب ما كانوا يتعرّضون له من سوء معاملة مقصودة في الفنادق والمطاعم وفي مواقع الآثار التاريخية.
أوقفت معاهدة كمب دافيد الحرب، ولذلك سميت معاهدة سلام. سلام اللاحرب. وبقي سلام التطبيع وهماً وقبضة ريح! الى أن ظهرت حركات الارهاب بإسم الاسلام والتي عاثت فساداً في الأرض، حتى وجدت مصر مصلحة لها في التعاون مع اسرائيل لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة. وأعاد هذا التعاون وضع قطار التطبيع على السكة مرة جديدة.
الوضع يختلف الآن بعد التوقيع على الاتفاقيتين في واشنطن. إن ما حصل لم يكن اتفاق سلام لانه لم تكن هناك حالة حرب. كان اتفاق تطبيع. وهنا مصدر الخطر على لبنان، خاصة في ضوء سوء علاقاته مع دول الخليج العربي كافة. فالتطبيع هنا ليس قصيدة شعرية. انه برنامج تعاون وتعامل وتبادل في كافة الميادين والحقول الطبيعية.
تقدم اسرائيل في حالة التطبيع خدمات مصرفية أفضل من خدمات المصارف اللبنانية، خاصة بعد أن طعنت هذه المصارف في صدقيتها وبعد أن دفع النظام المصرفي اللبناني الى حافة الانهيار. ثم من لا يعرف ان اليهود على مدى التاريخ هم أشطر من لعب بحركة رؤوس الأموال؟! حتى أُطلق على اللبنانيين لقب «يهود العرب».
وتقدم اسرائيل خدمات سياحية أفضل أو أكثر جاذبية، خاصة وانها تشكل مقصداً جديداً.. بعد ان انتحر لبنان سياحياً، وانتقل من الترحيب بالمصطافين والسياح العرب الى الترهيب، ومن بيع العقارات لهم بأعلى الأسعار، الى شرائها منهم الآن بأدنى الأسعار !!
كذلك تقدم اسرائيل خدمات طبية أفضل خاصة بعد الترهل السريع الذي مني به الجسم الاستشفائي اللبناني مؤخراً على مستوى الطبيب والممرضة والدواء على حد سواء.
كان لبنان يصدّر لدول الخليج كميات كبيرة من انتاجه الزراعي خاصة من الفاكهة والخضار. وكان يصدّر اليها أيضاً أنوعاً محددة من انتاجه الصناعي. غير ان اسرائيل اليوم ليست قادرة فقط على منافسة لبنان في هذين الأمرين، بل لعلها قادرة على ان تحلّ محله بالكامل، نظراً لسوء العلاقات العربية الخليجية مع لبنان وللهجمة الانفتاحية الاسرائيلية على الأسواق الخليجية. كانت دول الخليج العربي حضن اللبنانيين ومأواهم للعمل وكسب الرزق الحلال. الآن تغيّر كل شيء واصبح اللبنانيون موضع اتهام وشك.
إن العديد من الأحياء في المدن والبلدات والقرى اللبنانية جرى بناؤها بأموال اللبنانيين العاملين في دول الخليج أو بمساعدات مباشرة من حكومات هذه الدول التي تتعرض للشتم بدلاً من الشكر، والتي يتعرض أبناؤها للاختطاف بدل الاحتضان، وللتهديد بدل التكريم. فإذا توجهوا الى اسرائيل فلن يلقوا هناك إلا الترحيب والتشجيع إن لم يكن حباً بهم فطمعاً بما ينفقون. فلماذا يحدث كل ذلك ؟.
****
تمكنت الولايات المتحدة بدهاء خبيث من استدراج إيران الى لعبة التوسع في المنطقة، ليس حباً بها، ولكن رغبة في تحويلها الى بعبع يخيف دول الجوار مما يسهل على الدبلوماسية الأميركية ابتزاز مخاوف هذه الدول. لا يكفي للخائف أن تقول له لا تخف حتى يطمئن. انه يحتاج الى ما هو أكثر من القول. وهو ما لم تقدمه إيران التي يبدو انها استساغت لعبة التوسع، وهو أيضاً ما لم تقدمه الولايات المتحدة التي يهمها في الدرجة الأولى توظيف هذا الخوف واستثماره الى ابعد مدى.
من هنا السؤال، لماذا ذهبت دولة الامارات العربية المتحدة الى ما ذهبت اليه؟.. ان محاولة الدخول الى العقل الاماراتي توضح ما يلي:
أولاً: تتقاذف المنطقة من جنوب الخليج العربي الى شمال البحر المتوسط ثلاث قوى غير عربية هي ايران وتركيا واسرائيل.
ثانياً: تحتلّ إيران ثلاث جزر تابعة للامارات منذ السعبينات من القرن الماضي (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى)، وترفض الانسحاب منها. بل انها تعتبر الجزر الثلاث جزءاً من الأرض الإيرانية.
ثالثاً: تتحالف تركيا مع قوى اسلامية – حركة الأخوان المسلمين- وهو تحالف يتناقض مع السياسة العامة للامارات التي تقوم على التسامح والانفتاح والاعتدال وعلى الأخوة الانسانية (زيارة بابا الفاتيكان فرنسيس الى أبو ظبي مع إمام الأزهر الشريف الشيخ أحمد الطيب).
رابعاً: تمسك اسرائيل بالمفتاح السحري للبيت الأبيض الذي يشدّ أو يرخي الحبال المربوطة مع كل من طهران (الملف النووي) وأنقرة (الملف الأوروبي)، بالترحيب هناك، وبالترغيب هنا.
لذلك كان طبيعياً أن تقودها الواقعة السياسية الى الخيار الذي يقطع الطريق امام بسط الهيمنة والنفوذ التركي – الايراني في الخليج العربي، رغم إساءة فهم السلطة الفلسطينية التي تنظر الى مسرح العمليات من زاوية مختلفة. وهذا أمر طبيعي ومفهوم. لذلك ان «من يأكل عصي الاحتلال ليس كمن يعدّها». من هنا مصدر الاهتمام او القلق اللبناني.
ان تأجيج المشاعر الفلسطينية وتوظيفها في الصراع الاقليمي حدث مراراً في السابق. وليس من المستبعد أن يحدث مرة أخرى. دفع لبنان الثمن غالياً جداً عندما سمح ان يكون مسرحاً لهذا الصراع. ولذلك ليس من الحكمة في شيء أن يسمح بأن يكون مسرحاً له مرة جديدة «فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين». ولكن من الذي يسمح أو لا يسمح؟
الذين سمحوا في السابق ندموا وقاموا بمراجعة ذاتية. ولكنهم الآن ليسوا قادرين على ترجمة ندمهم الا بالتمني وبالإعلان عن مواقف معنوية وتنبيهية، وهذا أمر واجب أخلاقياً ووطنياً. أما عملياً فالقدرة هي للقادر. والقادر هنا وفي غياب الدولة – أو تغييبها – هو من يملك السلاح.
رحم الله الرئيس الياس الهراوي الذي كان يقول بنكهته الزحلاوية المحببة: «الأزمات بتحبل في الخارج وبتولد في لبنان».
فماذا ستنجب هذه المرة ؟!.