بالتزامن مع الإعلان عن توقيع اتفاقية سلام بين الإمارات وإسرائيل، ومن ثم بين البحرين وإسرائيل، وما تم الترويج له في الإعلام عن اعتزام ربط مرفأ حيفا ببلدان الخليج، من خلال خط سكة حديد في القريب العاجل، وأن حركة السياحة الخليجية قيد التحول… بدأ الحديث في بيروت عن أن لبنان فقد دوره التاريخي لصالح دولٍ أخرى، وأن مصيره مزيد من التأزم والتدهور، ولم يعد على جدول اهتمام الجهات الدولية!
جرى ويجري تدعيم هذه الصورة، بحدث مدوٍ هو الأخطر في تاريخ لبنان، عنيت جريمة الحرب التي استهدفت بيروت في الرابع من آب، فدمرت المرفأ ونصف المدينة تقريباً وأفقدت المواطنين الأمان بعدما اقتحم الموت البيوت! وكي تكتمل الصورة بعدما حرمت بيروت من مرفأها لأول مرة منذ الفينيقيين، تصدر المشهد رفض سلطوي مدفوع من «حزب الله»، بعدم الذهاب إلى تحقيق دولي يكشف الحقيقة وطريق العدالة للضحايا وللعاصمة ولبنان، ما أثار علامات استفهام حول التعاطي الاستنسابي مع العدالة.
الطريف جاء رفض التحقيق الأممي مرة بذريعة أن التحقيق الدولي مضيعة للوقت (…)، ومراراً لأن المنظومة المتحكمة حددت مسبقاً أن المطلوب تحقيق يحدد حجم الإهمال والأخطاء الإدارية، بعدما استبعدت فرضيات تحدثت عن ضربة إسرائيلية استهدفت مستودع أسلحة لـ«حزب الله»، ما فجر العنبر «رقم 12»، حيث تم بشكل لا شرعي تخزين ألوف الأطنان من «نترات الأمونيوم»، التي أكدت أحداث ومحاكمات دولية من الأرجنتين إلى بانكوك وبلغاريا ونيويورك وألمانيا وجود صلة رحم بين «نترات الأمونيوم» و«الحزب»!
هذا الطرح عن الدور الضائع تقدم على ما عداه، بعدما كان لزمن قريب قد ترسخ في الأذهان أن لبنان بفضل نظامه البرلماني الحر واحة حرية وديمقراطية، تحول مع عاصمته المشعة إلى جامعة المنطقة التي خرجت قيادات وكادرات عربية، ومصرفها مع خدمات متطورة في العمل المالي، ومشفاها مع تميز في مجال الطبابة… ومع المرفأ المزدهر والمطار الدولي، ضجت بيروت بالوافدين من رجال الأعمال والإعلام. كثر منهم اتخذوا منها مقراً لإقامتهم ما سرّع في تحولها إلى مساحة تمركزٍ اقتصادي، تستند إلى خدمات متطورة وانفتاح سكاني مرفق بتطور في مستوى المعيشة، وتجهيزات فندقية متقنة، فيستضيف فندق الفينيسيا الشهير حفل انتخاب ملكة جمال أوروبا. وعلى المستوى الفني شكلت بيروت ومعها لبنان أفضل «بلاتوه» للسينما المصرية، ومن بيروت كانت أم كلثوم تطلق بعض أغانيها!
يقول محمد بن راشد حاكم دبي، إنه تمنى في ستينات القرن الماضي أن تتكرر تجربة بيروت في دبي. لكن بيروت، ومعها لبنان، تم تحميلها أكثر مما يمكن أن تحتمل، بدءاً من اتفاقية القاهرة عام 1969، حيث بدأت مرحلة التخلي عن السيادة. ليشهد النصف الأول من السبعينات توسعاً في الازدهار، أُرفق مع بدء موجات التطرف والتسلح والتناحر واتساع الهوة على تقاسم الحكم بين زعماء الطوائف، ليدخل لبنان حربه الأهلية التي كان يمكن تجاوزها لو تم التوقف بمسؤولية أمام أحداث أيار عام 1973 بروفة الحرب الآتية.
كانت الأطماع كبيرة وامتزجت مع كثير من العوامل المحلية والإقليمية، وأولها الغياب الرؤيوي لدى الممسكين بالسلطة فتقدمت الانتماءات الطائفية واكتملت الصورة لبدء الحرب الأهلية، يوم 13 نيسان 1975. لكن السلم الأهلي بعد عام 90 وبعد اتفاق الطائف لم يكن يوماً بمثابة الإعلان الكامل عن انتهاء هذه الحرب… وخسر لبنان في عام 2000 فرصة السلم الكامل، لأنه رغم فرض الانسحاب على إسرائيل، وتحديد 25 أيار عيداً للتحرير، وجدت بضغطٍ النظام السوري الذرائع لإبقاء ميليشيا «حزب الله»، التي راحت تتحول بعد عام 2005 إلى دويلة داخل الدولة تتحرك وفق الأجندة المقررة من القيادة الإيرانية!
أفقدت الحرب بيروت ولبنان الكثير من الدور الذي كان لها، تباعاً بدأ يشيخ نظام التعليم والأخطر تمثل في تراجع التعليم الثانوي (ما قبل الجامعة)، وانعكس ذلك على التعليم الجامعي الذي راح يتسلع. ولم يكن توسع وازدهار القطاع المصرفي دليل حالة صحية، لا بل بدأ كبار المصرفيين ينتقلون من الصناعة المصرفية إلى عالم المرابين، وتأخر اللحاق بالتقدم التكنولوجي، لتغادر لبنان آخر فروع المصارف العالمية، وتراجع عدد شركات الطيران العالمية خصوصاً مع مرارة عمليات خطف الأجانب، والعرب والمعارضين اللبنانيين، مرة من أجل فدية، وأخرى لفتح كوة تفاوضٍ تخدم مصالح جهة إقليمية.
لم تكن راسخة بقدر المأمول عملية إعادة الإعمار، وخاب الرهان أن وسط بيروت، «السوليدير»، سيعيد استقطاب المستثمرين ويستعيد عالم رجال الأعمال السابق، فبدا مدينة داخل المدينة لا تربطه علاقة متينة ببقية العاصمة، وفشلت التركيبة السياسية وهي العصارة الصافية لتحالف لوردات ميليشيات الحرب والمال من تحقيق أي استفادة لدور مأمول لبيروت بعد 11 أيلول 2001، ولاحقاً بعد سقوط بغداد في عام 2003!
لكن العقد الأخير يبقى الأخطر لجهة فقدان الدور والمكانة ارتبط بأداء منظومة فاسدة تابعة أقل بكثير من ثدرات اللبنانيين وإمكاناتهم. منذ اجتياح بيروت في 7 أيار 2008 واتفاقية الدوحة وبدء الحكم عصر البدع بديلاً عن الدستور: من بدعة «الثلث المعطل» في الحكومة وصولاً إلى «الصوت التفضيلي» في انتخابات عام 2018 الذي غذى المذهبية بقوة، وبينهما صفقة انتخاب العماد عون مرشح «حزب الله» رئيساً… فترة تقدم فيها جمر الطائفية واتسعت الخلافات المذهبية، وبات أمراً عادياً إقفال المجلس النيابي وشغور الرئاسة الأولى 30 شهراً، وصار تعيين حاجب أو مأمور يعد إحراجاً يثير الخلافات ويهدد بإطاحة وحدة هشة. تدريجياً كان الدور السابق للبنان ينزوي ويغيب، وتتفشى ظاهرة الفساد مع بروز عالم كارتلات الاحتكار من المصارف إلى الكسارات والنفايات واتساع التلوث، والأخطر اختطاف الدولة، وتحويل لبنان إلى منصة عدوان ضد المنطقة لدعم مخططات الممانعة.
ثورة 17 تشرين فتحت طاقة واسعة، كسرت الاصطفافات الطائفية ووحدت اللبنانيين، لكنها لم تتمكن بعد من بلورة البديل السياسي. بالمقابل بدت السلطة وقد فقدت أهليتها وسقطت شرعيتها. وإذا كانت جريمة 4 آب قد رمّدت بيروت فهي أنهت السلطة، التي وافقت مضطرة على مبادرة فرنسية لقيام «حكومة مهمة» من خارج كل المنظومة، تدير فرملة الانهيار، سرعان ما انقلب عليها «حزب الله» تلبية لقرار طهران، وظناً منه أنه تم استيعاب النقمة التي تولدت بعد تفجير المرفأ! البلد في عنق الزجاجة و«حكومة مهمة» خطوة بالاتجاه الصحيح لعزل مافيا الحكم، والإصرار على التحقيق الدولي خطوة محورية، فيما أن الإصرار على الحقيقة والعدالة، مدخل لبدء التعافي والحياد، وهو رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر، والسير في منحى تحقيق هذه الشروط هو ما سيحدد الدور الممكن للبنان أن يلعبه استناداً إلى الغنى المعرفي والإنساني الذي يميزه.