يصل المفاوض الاسرائيلي غداً الى الناقورة، للتفاوض غير المباشر مع لبنان، مع توقع جني فوائد «مفرطة». وهو اعتقاد يستند الى أن لبنان معنيّ بإنجاح المفاوضات «مهما كان الثمن»، لأنه مضطر – بسبب ازمته الاقتصادية الحادة – للتنقيب عن الغاز في المنطقة التي تدعي «اسرائيل» حقاً فيها. كما ان حزب الله، بحسب الاعتقاد الإسرائيلي أيضاً، وعلى خلفية الازمة نفسها، كان مضطرا لـ«الموافقة» على بدء التفاوض، لإدراكه ان التسبب في عرقلته أو في افشاله سيعزز انتقاده داخلياً.
بصرف النظر عن صحة الاعتقادَين ومدى تأثيرهما على التفاوض، فإنهما يوجبان السؤال عما إذا كانت الإدارة اللبنانية للمفاوضات تدركهما، وهل تنوي تبديدهما خلال التفاوض؟ إن لم يكن كذلك، فستكون المفاوضات صعبة وقاسية وعنيدة من ناحية العدوّ، ولن تصل الى نتيجة قابلة للتنفيذ.
على هامش التفاوض، وغير بعيد عن القرار اللبناني ودوافعه، ظهّر اللبنانيون خلافاتهم وتعاملوا مع الحدث بما يعكس خصوماتهم. لكن من ناحية «إسرائيل»، المفاوضات تثير جملة نقاط على اللبنانيين الالتفات إليها. وقبل الملاحظات، من المفيد الاشارة الى ان «إسرائيل» لا تتوهّم بأن بدء التفاوض سينهي الاستحقاق الذي تنتظره على طول الحدود، منذ نحو ثلاثة اشهر، رداً على استهداف الشهيد علي محسن في اعتداء قرب مطار دمشق الدولي.
في اوراق القوة التفاوضية، اضافة الى الاعتقادين المشار اليهما، يتمتع العدو بـ«وسيط» أميركي معني بالوقوف الى جانب «إسرائيل»، وإن كان معنيا بإنجاح المفاوضات لأسبابه الخاصة. لعبة «الشرطي السيئ والشرطي الطيب» ستكون حاضرة. وما لا يصل اليه المفاوض الإسرائيلي يؤمَّل ان يصل اليه الوسيط الاميركي.
وفي اوراق قوة «إسرائيل» أيضاً، واحدة ستعمل على استغلالها بإفراط وتترقب منها فوائد، وهي الخلاف اللبناني – اللبناني على كل شيء. فهي تدرك مسبقا ان اياً ما ستطرحه في التفاوض، سيجد قبولا لدى طرف لبناني طالما انه يضر بخصمه اللبناني الآخر، وهو ما تبني على اساسه جزءاً مهماً من سياستها المعتمدة في مواجهة لبنان.
في فوائد «اسرائيل» الاقتصادية، وهو ما يجب على المفاوض اللبناني ادراكه، ان من مصلحة العدو إنهاء ملف الترسيم البحري مع الجانب اللبناني، ليبدأ التنقيب واستخراج الغاز من الحقول المتاخمة للمنطقة اللبنانية التي تدعي «اسرائيل» حقا فيها. وهي فائدة متشعبة وفي اكثر من اتجاه، أولها تمكين الشركات من العمل مع مخاطر متدنية بلا تهديدات مع الجانب اللبناني، الامر الذي كان سيرفع كلفة التأمينات الالزامية التي تواكب عمليات التنقيب.
وفي ذلك، تدرك تل ابيب ان الخطر على منشآتها في المنطقة المتنازع عليها سيكون – في حال تعذّر الحل مع لبنان – مربوطاً بتهديدات وخلافات تتجاوز المنطقة الاقتصادية الى مروحة واسعة من الخلافات مع الجانب اللبناني. فالمنشآت التي ستقام على اي جزء او ما يقرب منه، من المنطقة اللبنانية، سيكون نظرياً عرضة لرد حزب الله ضمن مروحة ردود على اي اشتباك او اعتداء يستلزم ردا او يتحول الى مواجهة قتالية، خصوصاً ان استهداف هذه المنشآت مشروع، طالما ان وجودها في ذاته يشكل اعتداء على لبنان.
مع ذلك، هناك عامل آخر يجب ان يكون حاضرا ايضا لدى المفاوض اللبناني، هو ان نجاح المفاوضات ينهي «وجع رأس» للمؤسسة العسكرية الاسرائيلية، التي كانت حتى الأمس تمنع التنقيب عن الغاز، ليس في المنطقة المتنازع عليها وحسب، بل كذلك في الحقول القريبة منها، على خلفية صد الذرائع لدى حزب الله إن قرر الإضرار بـ«إسرائيل».
في وجه آخر لهذا العامل ايضا، وهو ما لم يكن الجيش الاسرائيلي يخفيه، انه يتعذر عليه ماديا حماية هذه المنشآت خارج اطار الردع العام المتبادل مع حزب الله.
وفي جانب ثالث، «اسرائيل» معنية بالتوصل الى تسوية تمهّد لتسوية مع الجانب القبرصي حول حقل أفروديت الذي تتشاركان ملكيته، ويتعذر عليهما التوصل الى نسب الملكية فيه قبل حل مشكلة المنطقة التي تحده شرقا والقريبة جدا من منطقة التنازع مع لبنان. وتولي «اسرائيل» اهمية كبيرة لأفروديت، اذ ان امكانية الشراكة فيه مع الجانب القبرصي، تعزز جملة من الاتفاقات والتفاهمات بين تل ابيب ونيقوسيا، ومنها ما يعد استراتيجيا بامتياز، ويرتبط بسياسة وامكانات تصدير الغاز الإسرائيلي الى السوق الأوروبية.
لكن هل هذه هي الاهداف الإسرائيلية من التفاوض مع الجانب اللبناني؟ في الواقع، شهية تل ابيب كبيرة جداً. منها، مثلاً، ان التوصل الى حل، خصوصاً إن رُوّج له على انه نتيجة التفاوض كما يجري في المعاهدات والاتفاقات التسووية في حال النزاعات والحروب، سيؤدي الى الإضرار بمنطق حزب الله واستراتيجيته في حماية لبنان عبر المقاومة واقتدارها العسكري. وهي مادة تتيح لخصومه في لبنان البناء عليها. يعني ذلك التأسيس لمسار يعيد الاستقطاب الداخلي في لبنان، او يعززه، وهو ما يؤدي بداهة الى إشغال حزب الله عبر تفعيل الضغط الداخلي عليه.
في الوقت نفسه، يؤمل من التفاوض إيجاد اجواء توحي بالتناغم والتكامل مع مسار التطبيع الخليجي مع «إسرائيل»، على انه هو المسار الطبيعي في العلاقة مع الكيان الإسرائيلي والى الحد الذي يباشر لبنان نفسه، مسارا تفاوضيا معها.
الا ان هذه الفائدة مشروطة بإلباس التفاوض التقني حلّة مفاوضات تشبه مفاوضات المعاهدات، الامر الذي يفسر المقاربة الاعلامية الإسرائيلية لملف الترسيم ومفاوضاته التقنية بوصفها مقدمة او جزءاً من التطبيع و«السلام»، وكذلك «الوزن الثقيل» للوفد الإسرائيلي المفاوض، سياسيا وعسكريا.
على المفاوض اللبناني ان يدرك انه يفاوض استناداً الى اوراق القوة التي يمتلكها لبنان وعلى رأسها المقاومة
يمكن الادعاء ان هذه هي اهم فرص «اسرائيل» وتهديداتها في مفاوضاتها التقنية على الحدود البحرية مع لبنان، وهي تتداخل في ما بينها، سلبا وايجابا، الى حد كبير جدا.
الا ان ما يتقدم الفوائد الاسرائيلية، وربما ما يعدّ المحرك الرئيسي للمفاوضات من ناحية تل ابيب، هو محاولة تعزيز الاستقطاب في الداخل اللبناني ضد حزب الله والمقاومة والتأسيس لمسار ينطوي على استعداد لبنان لتقاسم حقوقه مع «اسرائيل». فالتفاوض، بحسب ما يأمل العدو، يتعلق بنسبة الحق في الغاز لا بكامل الحق الغازي نفسه. وتأمل تل ابيب ان تنسحب هذه المعادلة على بقية ملفات الخلاف مع لبنان، البرية في اكثر من نقطة تحتلها، وايضا حول الثروة المائية، وغيرها من الملفات ومما ستثيره «اسرائيل» لاحقاً، بناء على نجاح المسار التفاوضي الحالي.
وفقا لذلك، ينبغي السؤال والبحث عن فوائد التفاوض، في التوقيت والأداء اللبناني حتى الآن، وهو ما يفرض شرحا وتأويلا يطولان.
اما لجهة فشل «اسرائيل» او نجاحها، الكلي او النسبي، فمتعلق بقدرة المفاوض اللبناني وإدارته للمفاوضات التي يحب ان تكون مبنية على ادراك اهداف العدو منها، وتحديد ما هو اصيل فيها وما هو فرعي عنها. كما ان للمفاوض اللبناني ان يدرك انه لا يفاوض فقط على خلفية التطلع الى مخرج للازمة الاقتصادية لديه، بل ايضا استناداً الى اوراق القوة في لبنان التي ادت، وربما حصرا، الى ابتعاد «اسرائيل» عن فرض ارادتها بالقوة العسكرية.
وفقا لما تقدّم، يصحّ الحديث عن آمال اسرائيلية مفرطة، وهو ما لا يمكن المجادلة حوله، الا ان هذه الآمال قد تتحقق، كاملة او جزء منها، ربطا بأداء المفاوض اللبناني وثباته ومنع انحراف التفاوض عن مساره التقني.