إلى جانب الحرب الأمنية والعسكرية، وكجزء منها وامتداداً لها، يخوض كيان العدو حرباً معلنة ومفتوحة، ضد حزب الله، سياسياً وإعلامياً. هذه الحرب التي لم يعد مبرراً لأحد، صديقاً كان أو خصماً للمقاومة – حزب الله، إنكار حقيقة وجودها، وتجاهل أنها تخاض من قبل العدو بالتعاون والتكامل مع جهات دولية وإقليمية و… محلية أيضاً.
وحدَّد العدو لحربه الإعلامية – السياسية، مبادئ وتكتيكات وأدوات وأهداف، تحضر ببعدَيها التنظيري والتطبيقي في الأدبيات الإسرائيلية، على ألسنة الخبراء والقادة السياسيين والأمنيين، باعتبارها من أهم مداميك الصراع القائم في المرحلة الحالية. وتحاول معاهد الدراسات التي تعنى بشؤون الأمن القومي، دراسة مكامن الفرص والضعف، وتقدِّم توصياتها لمؤسسات القرار من أجل هزيمة حزب الله في هذه الحرب المفصلية التي يوليها قادة العدو اهتمامهم الكبير.
تستند فلسفة هذه الحرب، من ضمن عناصر متعددة، إلى أنه بعد فشل الخيارات والرهانات على التخلص من تهديد حزب الله، وجدت قيادة العدو نفسها أمام خيارات ضيقة ومحدودة. فلا هي قادرة على التسليم بواقع تعاظم قوة حزب الله على جميع المستويات العسكرية والتكنولوجية والسياسية… وليست مستعدة للمبادرة الى مغامرات عسكرية، أصبحت أكثر إدراكاً أن تداعياتها على الأمن القومي الإسرائيلي، ستكون أكبر من أن تطاق، وأبعد ما ستكون عن تحقيق الجدوى المؤملة منها.
في ضوء هذه القيود، اختارت قيادة العدو الحرب على الوعي، كخيار بديل ومواز للحرب العسكرية، وفي الوقت نفسه كجزء من «المعركة بين الحروب» التي تهدف الى محاولة تجريد المقاومة من جمهورها، وتحويلها الى كيان غريب في بيئتها وتقديمها على أنها المسؤولة عن المعاناة التي يشهدها لبنان. ومما يميز الحرب على الوعي التي يشنها كيان العدو، أنها حركة متواصلة ومتعددة المسارات والتكتيكات والأساليب، وتحاول الاستفادة من أيّ مستجدّ تنتجه ديناميات الواقع، أو أن يكون لها دور في إنتاجه. وهي موجهة الى المستويات كافةً، بدءاً من الجمهور مروراً بالنخب، وصولاً الى قيادات الصف الأول. مع ذلك، لا يستطيع كيان العدو تجاهل حقيقة أن هذه الحرب واجهت العديد من الإخفاقات في التأثير على جمهور المقاومة. ولم يكن إعلان نتنياهو من على منبر الأمم المتحدة، عن مخزن صواريخ لحزب الله في منطقة سكنية في منطقة الجناح، سوى جولة فاشلة في سياق هذه الحرب، طالت تداعياتها صدقية المؤسستين الاستخبارية والسياسية في كيان العدو. وتحوّلت في المقابل الى إنجاز نوعي لحزب الله في هذه المعركة المتواصلة.
في هذا السياق، كان لافتاً أن جهاز الاستخبارات العسكرية، «أمان»، لا يزال يحاول احتواء تداعيات هذا الفشل. ومن أبرز هذه المحاولات إشارة رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية، العميد درور شالوم، في مقابلتين متتاليتين مع «يديعوت أحرونوت» ومع موقع «إيلاف» السعودي الى أن حزب الله أحضر الصحافيين الى الجناح ولم يذهب بهم الى مكانين آخرين. والحقيقة أن نتنياهو لم يعلن في كلمته في الأمم المتحدة سوى عن مكان واحد. وهو أمر واضح في الفيديو الذي تضمّن كلمته، وانتشر أيضاً على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن يبدو أن العدوّ لم يجد وسيلة لاحتواء الصفعة التي تلقّاها رأس الهرم السياسي، سوى محاولة خلط كلام نتنياهو مع ما نشره أفيخاي أدرعي، المسؤول عن البروباغندا الإسرائيلية تجاه المنطقة العربية. والواقع أن حزب الله لم يسبق أن اكترث لما كان يصدر عن أدرعي من ترّهات وأكاذيب.
في جميع الأحوال، أقرّ بحث صادر عن معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، بحقيقة أن الجهود التي تبذلها إسرائيل في سياق الحرب على الوعي وتستهدف السكان اللبنانيين، «نجحت جزئياً فقط. وهي تجد صعوبة في التأثير على الجمهور الشيعي الموالي لحزب الله، وأيضاً على أجزاء أخرى من السكان تضرّروا من العمليات العسكرية لإسرائيل في لبنان ويرون فيها عدواً مسؤولاً عن معاناتهم». يؤشر هذا التقييم الى أن العدوّ سيواصل محاولة ابتكار وسائل ومسارات تهدف الى إحداث اختراق جدي في جمهور المقاومة. ومما يُعزز هذا التقدير أن هذه الحرب تحتل مكانة مهمة جداً في استراتيجية العدو لمواجهة حزب الله. وبحسب معهد الأمن القومي، هي «جزء من استراتيجية «المعركة بين الحروب» التي تشنها إسرائيل في الساحة الشمالية»، ولم تنتهجها (الحرب على الوعي) إلا بعدما سلّمت مؤسسة القرار بضيق هامش العمل العسكري في لبنان. بمعنى أنها، في نظره، البديل الممكن في ظل معادلات القوة القائمة.
يؤكد البحث أيضاً أن «الصراع على الوعي السياسي هو جزء من معركة تديرها إسرائيل، بهدف إضعاف حزب الله وكبح نشاطه ضدها». ولهذه الغاية يضيف المعهد أن إسرائيل تعمل «إزاء مختلف شرائح الجمهور في لبنان وأمام مختلف الجهات في الساحة الدولية وفي العالم العربي».
مع ذلك، أقرّ البحث أيضاً بأن حزب الله «يُخصِّص مكاناً واسعاً لحرب الوعي ضد إسرائيل»، مشيراً الى أنها «تستهدف أصحاب القرار والجيش الإسرائيلي، وكل الجمهور»، ومن أبرز تجلّياته الأخيرة، التهديد بالرد (على اغتيال المقاوم علي محسن في سوريا) الذي أجبر جيش العدو على البقاء في حالة استعداد متواصلة. ويلفت البحث أيضاً الى أن «حزب الله يبذل جهوداً على مستوى وعي السكان اللبنانيين عموماً وعناصره ومؤيديه الذين يرون به قوة ردع لإسرائيل». ولا يخفى أن الهدف الأهم بالنسبة إلى المقاومة هو تحصين جمهورها، انطلاقاً من أنه يمثل «مركز ثقل حزب الله» كما سبق أن وصفه رئيس أركان جيش العدو السابق غادي آيزنكوت. وهو بذلك يُشير الى أن التفاف الجمهور الشيعي (بحسب تعبيره) حول حزب الله أحد أهم عناصر قوته.
انطلاقاً من هذه الوقائع التي كشفت عن محدودية تأثير الحرب على الوعي، حتى الآن، ولأن المعركة لا تزال متواصلة وخيارات العدو العسكرية ضيقة ومكلفة، أوصى المعهد بضرورة «مواصلة الجهد على مستوى الوعي بشكل دائم ومكثَّف أمام حزب الله، عبر أدوات علنية وسرية، مع تنسيق الرسائل حيال مختلف الجماهير المستهدفة». ولفت أيضاً الى أن «فتح المفاوضات بشأن ترسيم الحدود البحرية والبرية بين إسرائيل ولبنان، الى جانب الوضع الاقتصادي والسياسي والصحي الصعب في هذه الدولة، وخصوصاً بعد الكارثة في ميناء بيروت، يخلق لإسرائيل فرصة هائلة… للوصول الى عقل اللبنانيين وقلبهم». ويستند هذا الرهان الى أداة محددة تتمثل بنشر مفاهيم توحي بأن المسار التفاوضي يُسهِّل تقديم المساعدة الدولية لتحسين ظروف حياتهم وتطوير دولتهم، من حيث الازدهار الاقتصادي والاستقرار، في مقابل الخيار المقاوم الذي يحرص العدو على محاولة سلخ البعد الوطني عن الدور الذي يؤديه في حماية لبنان وأمنه القومي، ويحاول أن يضفي عليه دوراً وظيفياً لمصالح خارجية. وفي هذه النقطة بالذات، دعا المعهد الى ضرورة أن تشدد إسرائيل في رسائلها على أن حزب الله هو «المتّهم الأساسي في منع الدعم الدولي للبنان من أجل مساعدته في الخروج من الأزمة الأصعب في تاريخه».
إسرائيل تواجه صعوبة في التأثير على جمهور حزب الله
ولأن صدور هذه المقولات عن «إسرائيل» مباشرة، أو جهات محسوبة عليها، قد يساهم في الحد من تأثيرها، بحسب ما ثبت للعدو بالتجربة، أوصى المعهد بالاستفادة من هذا الفشل السابق من خلال «نقل هذه الرسائل عبر جهات غير محسوبة على إسرائيل، لأن هذا يُصعِّب بشكل طبيعي على الإنصات لها، وسط الجمهور اللبناني ووسط الممتعضين من حزب الله». ولفت المعهد أيضاً الى وجود أرضية خصبة كي تحقق هذه الحرب أهدافها، معتبراً أن «أهمية معركة الوعي التي تقودها إسرائيل في لبنان عموماً، وأمام حزب الله خصوصاً، تتعاظم في الوقت الراهن، على ضوء الصعوبات التي يعانيها لبنان، والتي من شأنها أن توجِد أذناً صاغية في وسط الجمهور اللبناني، الذي يرزح تحت عبء الأزمة. ومن الضروري أن يتم تقديم حزب الله على أنه من بين المسؤولين المركزيّين عن هذه الأزمة، إن لم يكن أكبرهم».