من الواضح أن أصحاب القرار في كيان العدو فهموا الأبعاد والرسائل التي تنطوي عليها محاولة استهداف إحدى الطائرات المسيّرة «النوعية» التي اخترقت السيادة اللبنانية، أول من أمس، بصاروخ أرض جو، أكثر من البعض في لبنان وخارجه. فهم أدركوا ما ينطوي عليه هذا الارتقاء في التأسيس لمسار يهدف مستقبلاً الى إرساء سقف جديد في الردع والدفاع عن سماء لبنان وسيادته، بعدما نجحت المقاومة في تعزيز حماية لبنان على المستوى الاستراتيجي، وتحوَّل من وطن مصيره مرهون بالمتغيرات الإقليمية والدولية… الى قلعة منيعة على الأطماع الإسرائيلية، ومصدر تهديد لأمن «إسرائيل» القومي.
الأهم في سياق هذه الوقائع أنها رسخت كمفاهيم في وعي صنّاع القرار السياسي والعسكري والاستخباري، وانعكست في خياراته العملانية ــــ انكباحاً وتردداً وحذراً. لكن ما ينبغي أن يبقى حياً في الذاكرة والوعي أن هذه الخلاصة لم تتبلور بين ليلة وضحاها، وإنما أتت تتويجاً لمراحل من المقاومة راكمتها بالدماء والتضحيات والتخطيط والإعداد، وتبدّدت خلالها رهانات وخيارات وأحلام كانت تراود القادة الإسرائيليين.
أكثر ما يقلق المؤسسة الإسرائيلية أن محاولة استهداف طائرة زيك ــــ هرمس 450، فوق جنوب لبنان، تُشكّل ترجمة لخيار وتنفيذاً لقرار استراتيجي. ومن هنا، يدركون في تل أبيب أنها محطة في سياق كان هناك ما قبلها، ومن الواضح أنه سيكون ما بعدها. وهي أتت بعد يومين على إسقاط مسيّرة على الحدود مع فلسطين المحتلة في أعقاب اختراقها للأجواء اللبنانية. وفي هذا السياق، يحضر استهداف الطائرات المسيّرة، في الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي، باعتباره ترجمة لما سبق أن أعلنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في أعقاب الاعتداء الإسرائيلي في منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت (شارع معوض) في آب 2019. وفي ضوء ذلك، بات واضحاً لدى العدو أن هذا المسار قد انطلق، لكن يرتبط توقيته وساحاته وأساليبه وتكتيكاته، بالعديد من المتغيّرات والفرص والقيود.
على هذه الخلفية، أتى تكرار وصف محاولة استهداف الطائرة المسيَّرة عن بُعد، فوق جنوب لبنان، في أكثر من تقرير إسرائيلي بأنه حدث غير اعتيادي واستثنائي جداً. وبحسب الناطق باسم جيش العدو، كانت الطائرة تقوم بمهمة روتينية (تجسس) وجمع معلومات وتصوير، من أجل إعداد بنك أهداف الجيش الإسرائيلي وسلاح الجو. مع الإشارة الى أن طائرة هرمس 450، طائرة كبيرة (طول جناحيها 10 أمتار)، قادرة على البقاء في الجو لمدة 20 ساعة، وعلى حمل صواريخ تمكّنها من تنفيذ اعتداءات جوية.
إلى جانب ما تمثله الخروقات الجوية الإسرائيلية من اعتداءات على السيادة اللبنانية، فهي أيضاً جزء من استراتيجية العدو للحفاظ على التفوق الاستخباري، مستنداً في ذلك الى ما يتمتع به من قدرات متطورة في أكثر من مجال. مع ذلك، فقد نجح حزب الله في مواجهة هذا التحدي، في الكثير من المحطات السابقة في الالتفاف على هذا التفوق، عبر استراتيجية مضادة نجحت في تحصين قدراته، وهو ما تجلّى ذلك في الانتصارات التي حققتها المقاومة. لكن الجديد الذي بدا واضحاً أنه نجح حتى الآن في إرباك حركة عمليات التجسس، أن سلسلة الاستهدافات التي نفذها حزب الله في الدفاع عن السيادة اللبنانية، هي أيضاً جزء من «المعركة على حرية العمل الجوي و(في مواجهة) التفوق الاستخباري للجيش الإسرائيلي». واللافت في هذا السياق، أن تل أبيب ترى ــــ بحسب تقارير إسرائيلية ــــ أن «لدى حزب الله سلسلة من الصواريخ المضادة للطائرات يعدّها بشكل أساسي للحرب»، في إشارة الى أن الحزب لا يستنفد كل قدراته في هذا الاتجاه، وإنما ينفذ استراتيجيته وفق رؤية مُحدّدة تواجه تحديات الحاضر وتأخذ بالحسبان الاستعداد لتهديدات المستقبل.
أمام هذا المستجد الذي يرى العدو أن خطورته تنبع من كونه مساراً تراكمياً، تجد مؤسسة القرار السياسي والأمني لدى العدو أنها أمام تحدٍّ شديد التعقيد يفرض عليها دراسة البدائل المضادة. وانعكس إرباكها في العديد من التقارير الإسرائيلية، التي أظهرت المعضلة المركّبة التي يواجهها الجيش ومن ورائه القيادة السياسية، بأن أي ضربة عسكرية في الأراضي اللبنانية، قد تؤدّي الى ردّ مضادّ من حزب الله. وفي السياق نفسه، يبدو أيضاً أن السيناريو الذي يُعزِّز ترددهم وانكباحهم، في تل أبيب، أنهم الى جانب الثمن الذي سيجبيه حزب الله من جيش العدو، فإن أي اعتداء تحت هذا العنوان، سيؤدي أيضاً الى تعزيز جهود المقاومة في مواجهة الخروقات الجوية، وبذلك تكون «إسرائيل» قد ورَّطت نفسها بالمزيد من القيود على حرية التجسس الجوي.
في المقابل، يحضر لدى مؤسسة القرار أيضاً، تخوف من أن عدم الرد سيؤدي الى تعزيز قدرة ردع حزب الله، الذي سيترجم بالدفع نحو مزيد من الارتقاء في التصدي للخروقات الجوية، استكمالاً لمعادلة الردع والدفاع التي نجح الحزب في إرسائها في مواجهة مستويات وسيناريوات أكثر خطورة على لبنان.
مَن يبادر إلى التصدّي لاختراق السيادة الجوية، هو بالتأكيد أكثر استعداداً لمواجهة أي تجاوز للخطوط الحمر التي أرستها المقاومة
بالموازاة، لوحظ أن تفسيرات بعض المعلّقين في كيان العدو شكلت تكراراً للمعزوفة التي يمكن توقّعها مسبقاً، ويرددها خصوم المقاومة وأعداؤها في لبنان وخارجه عبر الذهاب شرقاً وغرباً في (بعض) التحليلات. لكن الأكثر جدية بينها تلك التي قاربتها من زاوية أن التصدي للخروقات الجوية، تُجسّد، بتعبيرهم، الجرأة التي يتمتع بها حزب الله، في هذا التوقيت. ويبدو أن الإشارة الى التوقيت مرتبطة بأكثر من متغير. فهي تأتي في أعقاب رسائل وتهديدات رئيس أركان جيش العدو، التي لم تعنِ، بعكس ما فهمها البعض، تلويحاً بالحرب أو تمهيداً لها، بل تحدّث عن السيناريو الذي ستشهده الساحتان اللبنانية والعمق «الإسرائيلي» في حال نشوب الحرب. وأيضاً، لكون هذا التصدي للخروقات الإسرائيلية يأتي في ظل ما يشهده لبنان من أزمة اقتصادية وصحية ومالية وسياسية.
وهنا تكمن الرسالة الأهم، أنه بالرغم مما يواجهه لبنان من تحديات صحية واقتصادية، لكن الصاروخ الذي انطلق نحو الطائرة حمل معه أيضاً رسائل عديدة، من ضمنها أن كل التحديات في الجبهة الداخلية والإقليمية، لن تكون على حساب الاستعداد والجهوزية ولمواجهة اعتداءات العدو. والرسالة الأبلغ أن هذا المسار يبدد أي أوهام ــــ تقديرات يمكن أن تراود أصحاب الرؤوس الحامية في تل أبيب بأن الوضع الذي يشهده لبنان قد يشكل فرصة لمغامرة «مدروسة». وبناءً على ما تقدم، فإن المفهوم الذي سيتردد صداه في أروقة مبنى «الكرياه» في تل أبيب (مبنى وزارة الأمن وقيادة الجيش) هو أن مَن يبادر إلى التصدي لاختراق السيادة الجوية اللبنانية، هو بالتأكيد أكثر استعداداً لمواجهة أي تجاوز للخطوط الحمر التي أرستها المقاومة.