هي نظرية انزياح الخطوط الحمراء الإسرائيلية التي تفسّر انكفاء تل أبيب عن الاعتداء العسكري على الساحة اللبنانية. ما كان خطاً أحمر فاقعاً، كالقدرة لدى حزب الله على تصنيع الصواريخ الدقيقة وتطويرها، يتحول إلى خط أحمر باهت بعد تعذّر المواجهة. هكذا، تنتقل «المعالجة» إلى مستوى آخر، يرتكز أكثر على عامل الردع بهدف منع الحزب من تفعيل التهديد، بعد التسليم قسراً بواقع وجوده
«إسرائيل» هي نفسها. لا تغيير في قدراتها إلا نحو «الأحسن» والأكثر فتكاً. وهي لن تتردّد عندما تجد فرصة سانحة لـ «المعالجة» العسكرية. لكن ما يحول دون ذلك، هو تعاظم القدرات العسكرية للطرف الآخر، أي حزب الله، وتحديداً «النوعي» منها، بما يدفع العدو (وربما يجبره) إلى عدم تجاوز معادلات الكلفة والجدوى، ما يفرمل قراراته بالاعتداء.
وإلى الكلفة والجدوى، وهما الأساس، تضغط على القرار الإسرائيلي عوامل ومسبّبات ذات صلة: إلحاح اللجوء إلى هجمات فورية، وداهمية توقيت التهديد لجهة إمكان تفعيله ضدها، ووجود خيارات عدة بديلة للخيارات العسكرية، خصوصاً أن الخيار العسكري، وفقاً لميزان القوة بين الجانبين، مكلف لـ«إسرائيل» وغير مضمون النتائج.
لا يعني ذلك أن الخيار العسكري الإسرائيلي، لجهة القدرة في مواجهة تعاظم القدرة الصاروخية الدقيقة للمقاومة، غير موجود مادياً. بل العكس هو الصحيح. إذ أن لدى إسرائيل القدرة والتوثّب على شنّ اعتداءات، مقابل وجود عوامل تلجم توثّبها. وفي ذلك واحدة من أهم المعضلات الإسرائيلية في مواجهة هذا النوع من التهديد.
منذ أكثر من عام، ترد من كيان العدو إشارات و«تقديرات» استخبارية عما تسميه «انزلاق» مكوّنات ضرورية لتصنيع صواريخ دقيقة وتطوير ما هو غير دقيق، إلى الساحة اللبنانية. ويصاحب هذه التسريبات قدر كبير من الإنكار وتقديرات بأن هذه المكوّنات لم تُفعّل حتى الآن، وأن جلّ ما تحقّق نجاحات محدودة جداً في تطوير عدد محدود من الصواريخ، من دون قدرة فعلية على التصنيع. وفي هذه الإشارات، هناك تفريق بين ما هو دقيق مصنّع من الأساس، وآخر مطوّر من صواريخ «إحصائية» إلى صواريخ دقيقة.
ويعزو العدو انعدام القدرة على التصنيع إلى النتائج التي تحقّقها «المعركة بين الحروب»، عبر استهداف إرساليات هذه المكوّنات قبل أن تصل إلى لبنان، و«كشف» أماكن تجميعها وتسريبها إلى الإعلام، ما يدفع حزب الله إلى نقلها الى أماكن أخرى، ما يؤخّر إمكان تفعيلها.
الجديد في المقاربة الإسرائيلية المعلنة، والتي ترد في الإعلام العبري عبر تسريبات و«تقديرات» استخبارية ترافقها، كالعادة، تهديدات بحروب ومواجهات، هو التراجع النسبي في حالة الإنكار، وبدء الحديث عن عمليات تطوير لعشرات الصواريخ وتحويلها إلى صواريخ دقيقة. وقد تطورت هذه التسريبات لتتحدث عن «تطوير»، لا «تصنيع»، مئات الصواريخ، في استمرار لحال الإنكار.
وقبل أيام، حمل الإعلام العبري تهديدات من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية للبنان وحزب الله، على خلفية تصنيع وتطوير صواريخ دقيقة، مع «ترجيحات» بأن القرار بـ«المعالجة» العسكرية لـ«مشروع الدقة» قد يأتي قريباً!
«رسالة» الجيش الإسرائيلي، عبر تقرير نشرته صحيفة «هآرتس»، كانت مشبعة بالدلالات، وجاء فيها: «بات لدى حزب الله أكثر من مئة صاروخ دقيق في لبنان، وهو يعمل على إنشاء خطوط تجميع من شأنها تحويل الصواريخ «الغبية» إلى أسلحة ذكية ودقيقة قادرة على إصابة هدف على مسافة تزيد على 100 كيلومتر بمدى انحراف لا يتعدّى أمتاراً قليلة. ويمكن لإسرائيل أن تعتبر نتيجة هذه الجهود (خطوط الإنتاج) سبباً كافياً للقيام بخطوة هجومية. ومن المحتمل أن تصل إلى حد اتخاذ هذا القرار العام المقبل».
إقرار إسرائيلي بأن المعركة بين الحروب والاعتداءات فشلت في منع حزب الله من امتلاك مكوّنات تصنيع الصواريخ الدقيقة
لم يعد الحديث الإسرائيلي، هنا، عما كانت تسميه تل أبيب لفترة طويلة «فكرة» تراود حزب الله تهدف إلى إنتاج صواريخ دقيقة، بل باتت المسألة واقعاً. كذلك، لم تعد «المعركة» الإسرائيلية تُخاض ضد ما تسميه «مشروع الدقة» عبر منع مكوّنات التصنيع والتطوير من الوصول إلى لبنان. إذ باتت هذه القدرة موجودة ومنتجة. بل إن هناك تقديرات حول خط إنتاج وتطوير قد تدفع إمكاناته العدو إلى درس الخيار العسكري. إذاً، باتت المعركة الآن منصبّة على النية والإرادة، لا على المكوّنات المادية.
بكلام آخر. تقرّ إسرائيل، عملياً، بأن «المعركة بين الحروب» فشلت في تحقيق غاياتها. بل تسببت لها بنتائج يمكن وصفها بالكارثية. إذ بدل أن تتعاظم قدرة حزب الله نوعاً وكماً وقدرة على الإيذاء، من الساحة اللبنانية ومن خارجها، وهي الساحة التي تراهن إسرائيل على امتلاكها قدرات استخبارية وعسكرية وأمنية فيها، إلى جانب ضغوط الحليف الأميركي للحدّ من مسارات النقل، أصبح التعاظم العسكري ذاتياً، وبعيداً عن قدرة العدو، المباشرة وغير المباشرة، على التأثير الحاسم، إلا عبر الخيار العسكري الذي يطول سرد مسبّبات منع تفعيله.
ورغم أن الهدف الأساس من رسالة الجيش الإسرائيلي، عبر «هآرتس»، هو التهديد لردع حزب الله ودفعه إلى الانكفاء عن التصنيع والتطوير، إلا أنها تتضمن إقراراً بأن جهود «إسرائيل»، ومنها المعركة بين الحروب والاعتداءات في أكثر من ساحة، قد فشلت في منع الحزب من امتلاك مكوّنات التصنيع. كما أنها تشير إلى أن المواجهة الإسرائيلية، من الآن وصاعداً، ستُخاض لمنع خط الإنتاج بعد الفشل في منع امتلاك مكوّناته. والفرق بين المسارين كبير جداً.
ويثير ما أوردته «هآرتس» عن أن العام المقبل ستتخلله بلورة قرار إسرائيلي بخطوة هجومية ضد السلاح الدقيق، أسئلة لا تخلو من استهجان: ما الداعي إلى إطلاق تهديدات بهجمات قد يتقرر تنفيذها أو لا العام المقبل؟ وماذا عن التهديدات السابقة بشنّ هجمات في حال وصلت مكوّنات التصنيع والتطوير إلى لبنان؟ وما الذي يدفع الى تأجيل الهجمات للعام المقبل وليس الآن؟
هذه الأسئلة تشير إلى تقدير بانكفاء إسرائيل وامتناعها عن تنفيذ ما تهدد به. وفي وقت يُستبعد شنّ اعتداءات مباشرة ضد لبنان، يبقى الخيار العسكري موجوداً على طاولة القرار في تل أبيب، وهو حاضر بقوة في حالة السلاح الدقيق الذي بات يفوق أي تهديد فعلي آني ضد «إسرائيل». ويبقى الخيار العسكري موجوداً وحياً، وإن كانت تل أبيب تمنع نفسها من تفعيله قسراً بسبب تداعياته وأثمانه.
لكن في حال تقلّص الثمن الذي تقدر تل أبيب أنها ستتكبّده نتيجة اعتداءات قد تُقدم عليها، تزيد أرجحية شنّ الاعتداءات. وتقدير الثمن، لا يرتبط فقط بما يمكن أن تتسبب به القدرات النظرية لحزب الله، بل بيقينها بأن إرادة التفعيل وقراره موجودان لدى الحزب، وأي تراجع فيهما من شأنه تفعيل اعتداءات إسرائيل.
ما يضغط على قرار «إسرائيل»، ويحوّل تموضعها إلى توثّب دائم بلا أفعال، أنها ترفض تكبّد ثمن اعتداءات ليست متيقّنة من نتائجها، وهو أمر منطقي. وهذا يدفعها إلى الانكفاء وتأجيل خياراتها العسكرية، من دون إلغائها، بانتظار تبلور ظروفها وعوامل إطلاقها. في المقابل، هذا الترحيل القسري يؤدي إلى تكبير ثمن «المعالجة» لاحقاً، سواء ضد السلاح الدقيق أو ما يتجاوزه، وتراكم هذه القدرات يزيد من عوامل الانكفاء الإسرائيلي مستقبلاً لارتفاع كلفة المواجهة أكبر مما هي عليه الآن.
هي حلقة مفرغة. تتسبب آثارها السلبية، بسلبيات إضافية، تزيد الوضع تعقيداً على إسرائيل. وإن كانت، دائماً، تنتظر أي فرصة مؤاتية لفعل كل ما يمكنها ويتاح لها في مواجهة هذا السلاح ولمنع تراكمه.