في الكّم الكبير من التصريحات التي برمجها جاريد كوشنير ترويجاً لشخصه ولخطّته، لم يكن يتحدّث عن فلسطين بل عن الفلسطينيين كجماعة وجدت هناك، ربما بصدفة تاريخية غير مستحبّة. كان يتحدّث فقط عن إسرائيل. ينبغي الاستماع جيداً، وبدقة، إلى صيغة عباراته، فكل هذا “الازدهار” الذي يبشّر به هو من أجل إسرائيل، وهذا كل ما يعنيه. إذ أشار، مثلاً، إلى أن خطّته جزء من وعود يحرص دونالد ترامب على أن يفي بها، وقد بدأها بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها. ويعني ذلك أن ترامب كان يتوقع أن يخرج الفلسطينيون بمسيرات فرح وترحيب، لكن قراره لم يلقَ سوى تأييد وحيد حول العالم وكان من صديقه بنيامين نتانياهو وزمرة المتطرّفين في إسرائيل والكونغرس. كان هناك الكثير مما يجب رصده في اسهابات كوشنير، وكلّها مواقف أو مطالب إسرائيلية، منها رفض المبادرة العربية للسلام، وضرورة وجود “وجوه جديدة (فلسطينية) إلى الطاولة”، فـ “الوجوه” التي التقاها مع فريقه كانت تتحدّث عن إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان، عن حل الدولتين ودولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وعن حق العودة والحدود… وكلّها عند كوشنير وزميليه جيسون غرينبلات وديفيد فريدمان مفاهيم بالية عفا عليها الزمن.
لكن هذه هي مقوّمات السلام التي يعترف بها العالم المتمدن، المرتبط بالقوانين والأعراف الدولية، والمؤمن بحقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعوب. ولأنها مطروحة منذ عقود ولا تنفّذ فقد رأى كوشنير أن يتقدّم بـ “أفكار جديدة” من دون أن يسأل عن/ أو يتوقّف عند أسباب فشل الأفكار القديمة، وهذه الأسباب تُسأل عنها الولايات المتحدة وإسرائيل حصرياً لأنهما سعتا دائماً إلى سلام ملفّق لا يمكن تحقيقه إلا بقوة الفرض والقهر. هذا ما باعه نتانياهو إلى ترامب الذي اشترى وكلّف صهره بإتمام ما سمّاه “صفقة القرن”. بعد جهد تجاوز العامين لتخصيب الخدع، عرض كوشنير في “ورشة المنامة” ما يعتقده نبيلاً وإيجابياً في خطّته ولم يكتشف المشاركون فيها سوى القليل “الجديد” فيها. من ذلك، مثلاً، تخصيص أموال لمصر والأردن ولبنان، (هل يُفهم من استثناء سورية أنها تخلّصت من جميع فلسطينييها باستثناء من لا يزال النظام والإيرانيون يحتاجون إليهم في مهمات مشتبهٍ بها)، وهذه أموال وصفها مسؤولون لبنانيون بأنها “رشوة” لتمرير توطين الفلسطينيين، فلو كانت رشوة من دون توطين لأمكن النظر فيها.
صوّرت واشنطن عدم دعوة إسرائيل إلى “الورشة” وكأنه تنازل أو “احترام” لغياب الفلسطينيين من دون أي اعتبار لأسباب غيابهم. رضي نتانياهو بغياب ممثل عنه لأن كوشنير يمثّله، ولأنه يعرف جيداً منطلقات مستشار ترامب ودواخله الصهيونية العميقة. كان ذلك أيضاً خدعة متفق عليها، مع أنه لا داعي ولا مجال للخداع، فلو توفّر شيء من الشفافية، فضلاً عن حسن النيّة، لما كان كوشنير مضطراً للعبة الأحاجي كي يواصل إخفاء خطّته السياسية. لكن التكتّم شكّل إصراراً على رسالة مفادها أن “الصفقة” هي بين ترامب ونتانياهو وأن القاعدة الأولى فيها تمنع النقاش والاعتراض، خصوصاً بالنسبة إلى الفلسطينيين المخيّرين بين “الصفقة” أو المجهول. أما المجهول فهو ما يعيشونه الآن ومن شأنه أن يزداد سوءاً، وأما “الصفقة” فتكفّلت التسريبات بكشف بعض إجحافاتها. فما قول كوشنير وزمرته في أن التسريبات التي رعوا بثّها طوال الفترة الماضية لم تكن تكهّنات خيالية، إذ قالت إن “الصفقة” لا تعتمد “حلّ الدولتين” ولا “الدولة الواحدة”، كما أن تبرّعات فريدمان وغرينبلات وحتى مايك بومبيو لإسرائيل بـ “حقّها” في ضم أجزاء من الضفة الغربية كشفت جانباً أسود آخر من أهداف “الصفقة”. لو لم تكن تلك العصابة تخطط لسلب الفلسطينيين حقوقهم وسرقة المزيد من أرضهم لما استوجب الأمر أيّ تكتّم أو سرّية.
في المبدأ لا يمكن أحداً أن يرفض خطّةً للتنمية وتحسين الأوضاع المعيشية للفلسطينيين، ومنذ العام 1994 عقدت عشرات المؤتمرات والورشات في هذا الشأن وكان أهمها في فترة “سلام” مستقطعة مطلع تطبيق اتفاقات أوسلو، حين التقت الإسهامات الدولية مع اندفاع الفلسطينيين إلى تنظيم الخدمات وتفعيلها في مدنهم وبلداتهم. وفي تلك الأثناء كان الأميركيون متحمّسين للعمل من خلال المنتدى الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا تنشيطاً للقطاع الخاص وتعميماً للتنمية ومشاريع التطوير، غير أن الخبراء الأميركيين وغيرهم لمسوا عن كثب كيف أن الإسرائيليين ملأوا الجلسات تنظيراً فيما كانوا يعرقلون العمل ويضيّقون على وزارات السلطة ورجال الأعمال بغية إخضاع الاقتصاد الفلسطيني لرقابتهم وتقنينهم وابتزازاتهم. وبعد قمّتين في الدار البيضاء وعمّان فقد هذا المنتدى زخمه ثم دوره وأهميته. وفي ذلك الوقت كان لا يزال هناك شيء من الأمل – تبيّن الآن أنه وهم – في تغيير إسرائيل ممارساتها كلما تقدّم تطبيق الاتفاقات، لكن كلّ ما أقدمت عليه من انتهاكات واستفزازات كان هدفه الوصول إلى وضع تُدفن فيه “اتفاقات أوسلو” بعدما دُفنت “المرجعيات الدولية”، أي إلى الانسداد الذي كرّسه تغوّلٌ إسرائيلي مفرط وضعفٌ عربي – فلسطيني مفزع، وهو الوضع الذي تستغلّه “الصفقة” لشقّ طريقها.
كيف لخطّة اقتصادية طموحة أن تحقّق سلاماً من أجل الازهار، أو العكس، فيما تقرصن إسرائيل الاقتصاد الفلسطيني وتستتبعه وتتحكم بكل أنشطته وموارده؟ لم تكن عند كوشنير أي إجابة عن سؤال كهذا يعتبره خاطئاً في الأساس، فطالما أنه لا يرى دولة فلسطينية في الأفق فإنه لا يرى المشكلة في خضوع اقتصاد “المناطق” للدولة ذات السيادة، أي إسرائيل. لكن كيف تؤدي خطّته إلى “أن يكون الطرفان في وضع أفضل”، كما قال، خصوصاً أن لا ضمانات عنده للفلسطينيين، فلا دولة ولا سيادة ولا حرية حركة ولا ضبطاً للوحش الإسرائيلي؟ لا بدّ أنه يروّج، إذاً، لوضع يُراد له أن يديم و”يشرعن” الصفة والوظيفة الاستعماريتين لإسرائيل. وهذا ليس استنتاجاً جدلياً، بل تقريراً لواقع أسهمت الولايات المتحدة في صنعه وخلصت في عهد ترامب إلى إنهاء الغموض بتعيين “مستوطن/ مستعمر” سفيراً لها في القدس. تلك هي الحقيقة التي تخطّت كل أوصاف الفاشية والعنصرية وجعلتهما واقعاً معاشاً، بل سوّغت لإسرائيل سنّ قانون القومية اليهودية لـ “شرعنة” التمييز القائم أصلاً ضد العرب الموجودين في دولتها والتمهيد للخلاص منهم بأي وسيلة.
بعيداً عن حملات الشتائم والتخوين لا يخفى أن بعضاً من حكومات عربية شارك في “ورشة المنامة” مهتماً بما تطرحه الخطة الاقتصادية لكن غالبيتها شاركت لئلا يُعتبر غيابها مقاطعة للولايات المتحدة على غرار الفلسطينيين. لكن الجميع، عرباً وأجانب، كانت لديهم التساؤلات ذاتها وإن لم يطرحوها علناً: هل سبق أن حُلّ أي نزاع بخطة اقتصادية من دون معرفة الحل السياسي، وهل حصل أن استثمرت أميركا أو صرفت أموالاً على مشاريع في بلد مضطرب من دون اشتراط الاستقرار السياسي، ولماذا لم يعلن كوشنير ولو تلميحاً عن أي إسهام مالي أميركي في الخطة الاقتصادية إذا كان يضمن مسبقاً نجاح الخطة السياسية؟.. هناك جبالٌ من الشكوك ومن شأن الحكومات العربية أن تبددها، ففي العادة تقيس الدول حظوظ نجاح أي مبادرة بالأموال الأميركية المستثمرة فيها وليس بحجم الإسهامات الأخرى.
في الانتظار سجّلت ورشة كوشنير نقطة لإسرائيل، إذ كانت الطرف المستفيد الفوري، وبدا إعلاميّوها الحاضرون مبرمجين على موجة واحدة: “التطبيع”، إلى حدّ أن بعض التغريدات استنتج أن ما بات في حاجة إلى تطبيع هي علاقة العرب مع الفلسطينيين. الجهة الأخرى التي استفادت من “الورشة” كانت إيران، ومن دون أي سعي أو جهد، فالانطباع العام عربياً كان ولا يزال أن خطة كوشنير لا تنطوي على أي انصاف أو احترام لكرامة الشعب الفلسطيني، وبالتالي فهي لا تحمل سلاماً. وإزاء إجحاف كهذا، وصمت عربي مريب، كان شباب عرب يكتبون ويغرّدون – على مضض، نعم على مضض – أن الولايات المتحدة ترعى حالاً من “التشييع السياسي” لم تتمكّن أكاذيب إيران الملالي يوماً من إقامتها طوال أربعين عاماً مضت على ثورتها.