تتريّث إسرائيل في شأن الهبة الإيرانيّة. وحدود موقفها: إنها من حيث المبدأ ضدّ تسليح الجيش وتحديث آلياته، وتتمسّك بما جاء في اتفاق الهدنة على هذا الصعيد، وما حدّده القرار 1701، لكن إذا خُيّرت ما بين الهبة الإيرانيّة ومثيلتها السعودية، فهي مع الأولى، وتحاول عرقلة الثانية.
– ما هي الدوافع؟
إنها كثيرة. في نظر بعض ديبلوماسيّي دول التحالف.
أولاً، انّ سباق التسليح يُخفي سباقاً في شأن الدور المستقبلي للجيش، وعقيدته القتالية، والأمر يتوقف على مستقبل الجمهوريّة، والنظام، والكيان. وأيّاً تكن المتغيّرات وأحجامها، يفترض، ومنذ الآن، التسليم بحقيقتين: لبنان «ذو الوجه العربي» قد انتهى، و«لبنان العربي» محاصر بأسئلة مصيريّة عن الموقع، والدور والرسالة ضمن المنظومة الإقليميّة الى جانب تركيا وإيران وإسرائيل وسائر الدول العربيّة الأخرى. جامعة الدول العربيّة تسلّم أوراقها، لم يعد لها من دور نافذ، او كلمة مسموعة.
قد تحافظ على الشكل والإطار، لكن عندما يحين أوان التسويات الكبرى للملفات العالقة في الشرق الأوسط الجديد، ستشكّل مع مجموع أعضائها، جزءاً من منظومة الدول الإقليميّة التي ستقوم على أنقاضها.
ثانياً، آنيّاً ظاهر الخلاف أنّ البعض يريد الجيش في مواجهة الأصوليّة الشيعيّة – الإيرانيّة، فيما يريده البعض الآخر في مواجهة الأصوليّة السنيّة – الخليجيّة. حسمت الولايات المتحدة عمليّاً هذا الجدل، وضعت ملف التسليح في عهدتها مباشرة، ودعمت الجيش في مهمة الزود عن الإستقرار، وتوجيه بندقيته في اتجاه كلّ من يحاول نقل المشهد العراقي او السوري الى الساحة الداخليّة لتعميم الفوضى، خصوصاً أنّ السلاح متوافر لدى المخيمات وخارجها، سواء أكانت فلسطينيّة، او سوريّة، كما هو متوافر لدى غالبيّة المكونات الطوائفيّة الأخرى.
هذا التوازن «الدقيق» الذي ترعاه الولايات المتحدة، هو آنيّ، تقتضيه حاجات المرحلة، وهو مستمر طالما أنّ الفراغ قائم، والدولة في إجازة التمديد. تسييل الهبة السعوديّة سيتم بمعايير ضيقة وصارمة، ووفق متطلبات الضرورة، الى حين الانتهاء من المرحلة الإنتقاليّة، والدخول في مرحلة الحلول والمخارج.
إسرائيل غير قلقة من هذا «الستاتيكو» طالما أنّ الولايات المتحدة مُمسكة بزمام الأمور، ومشرفة مباشرة على ضبط الإيقاعات في لبنان، إضافة الى دول أخرى في المنطقة. والقلق الجدّي، يبدأ عندما تبدأ الحسابات الصعبة حول أيّ لبنان؟ وأي سوريا؟ وأي عراق؟ وأي دول عربيّة ستكون على خريطة الشرق الأوسط الجديد؟
ـ ثالثاً، تنظر إسرائيل الى الهبة الإيرانيّة كتفصيل صغير في خريطة التحالفات المستقبليّة الكبرى في المنطقة، والتي يُصار الى إرساء قواعدها ومرتكزاتها منذ الآن. النفط متوافر لديها، وقد بدأت باستثماره تحت نظر الجميع وسمعهم، فيما لبنان مشغول بكيدياته ومناكفات سياسيّيه.
القرار 1701 أوجَد تعايشاً مقبولاً على طول الخط الأزرق. صحيح أنه «محروس شكليّاً» من «القبعات الزرق»، ولكنه محروس عمليّاً من خلال توافق المصالح.
منهجيّة القرار 1701 قد تتوسع لتشمل الحدود مع سوريا، ومعها ضمناً كل العناصر الجديدة التي فرضت نفسها على أرض الواقع بعد معارك القلمون وعرسال وبريتال، وربما أيضاً المعارك التي يمكن أن تخاض مستقبلاً. تُرى، ألم تطالب قيادات وازنة في «14 آذار» بشمول القرار 1701 ومفاعيله الحدود مع سوريا؟
عمليّاً إسرائيل وأمنها، وحاضرها ومستقبلها، حاضرة في كل المفاوضات الأميركيّة – الإيرانيّة، وفي كلّ جولات التفاوض ما بين إيران ومجموعة الـ5+1، وشعار «رمي إسرائيل في البحر»، سيتحوّل شعار «رمي إسرائيل في القلب». لقد كانت في قلب طهران زمن الشاه، وستكون حكماً في قلب المرتكزات التي سيقوم عليها الشرق الأوسط الجديد.
ـ رابعاً، يوجد في لبنان سلاح إيراني أهمّ بكثير من الهبة، فما مصلحة إسرائيل أن يكون الى جانبه سلاح فرنسي او غربي؟ ثم انّ إيران دولة محوريّة في المنطقة، في حين أنّ الولايات المتحدة وفرنسا بعيدتان آلاف الكيلومترات.
أضف الى ذلك أنّ أيّ تفاهم على البرنامج النووي، سيأخذ أمن إسرائيل في الإعتبار، ويؤسّس لسلسلة من التفاهمات على ملفات إقليميّة عدّة تنتظر، ولإرساء تحالفات إقليميّة جديدة لن يكون للعرب فيها أي إمكانية لممارسة حق الفيتو.
أطلقت الهبتان السعوديّة والإيرانيّة حواراً عابراً للقارات، ليس في شأن تسليح الجيش، بل في شأن دوره المستقبلي كجزء أساسي من الدور والموقع الذي سيحتله لبنان على خريطة الشرق الأوسط الجديد.