تحت غيمة كثيفة من الصمت الثقيل، فتح عينيه ببطء. كانت غرفته في المستشفى ممتلئة بالآلات، أصواتها المتكررة كانت تمثل نغمة باردة في عالمه الذي تهشم. جسده أنهكته الجراح، لكنه لم يكن يعلم أن الجرح الأعمق لم يكن في جسده، بل في قلبه وروحه. تردد صدى كلمات الطبيب في أذنيه، لكنه لم يستوعبها في البداية “لقد فقدت عائلتك”.
في لحظات الصمت الطويلة التي تلت، لم يكن يشعر بشيء سوى الألم. نظر حوله، بحث عن وجوه مألوفة، عن ابتسامات زوجته وأطفاله، وعن أصوات ضحكات أطفال العائلة التي كانت تملأ المنزل. أراد أن يسأل عنهم، لكنه خاف من الإجابة. جلس الطبيب بجانبه بحذر، محاولًا أن يكون لطيفًا وسط قسوة الحقيقة.
“أين هم”؟ قالها بصوت متهدج، بالكاد خرج من بين شفتيه الجافتين. لكن الطبيب لم يجب، بل نزلت عيناه إلى الأرض. أدرك حينئذ الحقيقة التي كان يحاول أن يهرب منها. كلهم رحلوا! زوجته، وابنه، ووالد زوجته، وأخو زوجته، وأطفال العائلة، وبلغ عددهم سبعة شهداء… سبع أرواح فقدت في غمضة عين، دون أن يتمكن من وداعهم.
شعر وكأن الأرض قد انهارت من تحته. الصمت الذي كان يغلفه أصبح صاخباً بالذكريات: ضحكات طفله الصغير وهو يقفز على السرير، يد زوجته وهي تمسك به بإحكام عندما يخبرها بنكتة، صخب اللعب بين أطفال العائلة الذين كانوا يملؤون البيت بالحياة. كل تلك اللحظات أصبحت الآن شظايا ذكريات تلتهمه.
لم يستطع أن يصدق أنه الناجي الوحيد. كانت لحظة واحدة من الغياب، إصابته التي أقعدته في المستشفى، هي التي جعلته على قيد الحياة. ولكن بأي ثمن؟ استلقى على السرير، وشعر ببرودة السرير تحت جسده، لكنه لم يشعر بالراحة. كانت روحه تئن من الفقد، كان الألم أقوى من الجراح.
في اللحظات التالية، تمنى لو أنه لم يستيقظ! تمنى لو أنه لحق بهم في تلك اللحظة المشؤومة، حتى لا يواجه هذا العذاب. كيف يمكنه العيش بعد أن رحلوا جميعاً؟ كيف يمكنه العيش في عالم فارغ من كل من أحبهم؟ جلس بصمت، ودموعه كانت تسيل دون أن يشعر بها، كأنها تعبر عن كل ما لا يستطيع التعبير عنه بالكلمات.
الوقت توقف، لكن قلبه لم يتوقف عن النزيف! ظل الناجي الوحيد مستلقيا على السرير، عينيه موجهتين إلى السقف، وكأن الكلمات التي تشكلت في ذهنه تحتاج إلى منفذ. شعور اللوم والخيبة كانا ينهشان روحه، وحينما أغمض عينيه، تذكّر اللحظة التي قصف فيها بيته، لم يكن هناك إنذار، ولم يكن هناك وقت للهرب.
فكر في أولئك الذين كانوا يجلسون على الشرفة، يتبادلون الحديث والضحك، غير آبهين بالخطر. كانوا يعيشون حياتهم بكل بساطة، وكأنهم ينتمون إلى عالم آخر. “أين كانوا عندما حدث كل ذلك؟” تساءل في نفسه، كيف يمكنهم أن يظلوا غير مكترثين بينما كانت حياته تتهاوى؟
“إسرائيل”! صرخ في داخله، كأن تلك الكلمة وحدها تحمل كل عبء الحزن واللوم. شعر بأن تلك القوة الغاشمة، التي لا تنتمي إلى أي جهة، كانت السبب وراء معاناته. “لقد دمرتم عائلتي، منزلنا، ذكرياتنا، دون أن تشعروا بمعاناتنا”.
تمنى لو أنه يستطيع أن يواجههم، أن يسألهم كيف يمكنهم النوم ليلاً بينما كانت الأرواح تُزهق وتُفقد. كيف يمكنهم أن يواصلوا حياتهم وكأن شيئًا لم يحدث، بينما هو يعيش في كابوس لا ينتهي؟ لم يكن لديه أي انتماء سياسي، لكن فقدانه كان يتجاوز أي انتماء. كان إنسانًا، أبا، وزوجا، وكل ما تبقى له هو الألم.
أصبحت الغرفة مظلمة أكثر، والذكريات بدأت تشتعل في ذهنه، كل صورة لعائلته، كل لحظة سعيدة، كانت الآن جرحا مفتوحا. لم يستطع الهروب من الواقع، لكن في داخله كانت هناك رغبة قوية للانتقام، رغبة لأن يُسمع صوته. “أريد أن يتذكروا ما فعلوه! أريد أن يعرفوا حجم الدمار الذي سببوه”.
بينما كانت دموعه تنهمر، اتخذ قرارا، لن يبقى صامتا. يجب أن يتحدث، أن يحكي قصته، قصص عائلته، وأن يعري الظلم الذي تعرضوا له. كان يعلم أن كلماته قد لا تغير شيئا، لكن لم يعد لديه ما يخسره.
أدرك أن الأمل قد يأتي من خلال مقاومة الظلم بالكلمات، ومن خلال التمسك بذكريات أحبائه، رغم الفقد. سيتحدث عنهم، عن الضحايا، عن تلك الأرواح السبع التي أُزهقت. وعندما ينتهي من سرد قصته، سيفهم الجميع أن هذه المعاناة لم تكن مجرد إحصائيات، بل كانت حياة مفعمة بالحب والأمل، والحزن الذي لا يُحتمل.