منذ حرب تموز في العام ٢٠٠٦ وحتى اليوم، لم توفّر إسرائيل فرصةً إلّا واستثمرتها للبحث عمّا يمكّنها من القضاء نهائياً على «حزب الله». وطيلة تلك الفترة سخّرت كل طاقتها لإحياء الترسانة الصاروخية التي يملكها الحزب، وتقدير مدى تأثيرها في الميزان العسكري وكذلك في الداخل الإسرائيلي. ومن هنا كانت ما سمّتها القبة الحديدية لحماية الجبهة الداخلية بالتزامن مع مناورات هجومية ودفاعية متتالية شاركت فيها كل القطاعات العسكرية الإسرائيلية وكلّها تحاكي ما تسميها مستوياتها السياسية والعسكرية حرباً حتمية مع «حزب الله».
كل تلك المناورات، في تقييم الخبراء العسكريين الإسرائيليين لم تجعل الطاقم السياسي والعسكري الإسرائيلي يطمئن إلى أنّ إسرائيل باتت تملك عنصر الردع القاتل لـ«حزب الله»، وكذلك قدرة تحقيق انتصار على الحزب في أيّ حرب قد تشنّها عليه. ففي «حرب تموز» التي كانت أشبه بحربٍ عالميّة عليه، خرج منها الحزبُ منتصراً باعتراف لجنة فينوغراد التي تحدّثت عمّا سمّتها إخفاقات مُخجلة للجيش الإسرائيلي، وفي تلك الحرب لم يكن «حزب الله» يملك من القدرات والإمكانات والخبرات القتالية كما أصبح عليه اليوم.
اليوم، استجدّ عنصر جديد، أفرزته التطورات الحربية الأخيرة في غزة. حيث فوجئت إسرائيل بنمط جديد في المقاومة ودخول صواريخ «الكورنيت» إلى ساحة المعركة. وأدّى ذلك الى خسائر كبيرة وغير متوقعة في الجيش الإسرائيلي بالتزامن مع هجرة للمستوطنين إلى الداخل الإسرائيلي. وهو أمر شكّل مادةً في الإعلام الإسرائيلي للحديث عن العجز أمام هذا المستجد، وما سمّاها «مخاطره المخيفة» على إسرائيل، وصولاً الى تحميل حكومة بنيامين نتنياهو المسؤولية الكاملة عن هذا الإخفاق الجديد، من دون أن يوفّر جنرالات في الجيش الإسرائيلي.
أولى النتائج السياسية لهذا الحدث داخل إسرائيل، اهتزاز حكومة نتنياهو باستقالة وزير الدفاع افيغدور ليبرمان، وبطبيعة الحال أشعَر هذا التطوّر بشقّيه العسكري والسياسي، فصائل المقاومة وداعميها من إيران الى «حزب الله» في لبنان بالانتصار. إلّا أنّه في المقابل عبّر عن خشية من أن يكون ما حدث فاتحة لمبادرات عدوانية إسرائيلية قد لا تبقى محصورة على الأرض الفلسطينية، إنما قد تتعدّاها لتطاول «حزب الله» في لبنان. والهدف الأساس منها ردّ الاعتبار واستعادة قدرة الردع.
من فلسطين، كما تقول شخصية خبيرة في الشأن الإسرائيلي أكّدت فصائل المقاومة جهوزيّتها للقتال واستعدادها للمرحلة المقبلة، واما من الجانب اللبناني فجاء الجواب المسبَق على لسان الرئيس نبيه بري الذي قال بخيار وحيد للمواجهة وهو المقاومة، وكذلك على لسان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، الذي وجّه في خطابه الأخير رسالة واضحة إلى الإسرائيليين، ومفادها الردّ الحتمي على أيّ اعتداء إسرائيلي، يسبقها تأكيده في محطات سابقة بأنّ كل المساحة الإسرائيلية في مرمى صواريخ الحزب.
إسرائيل اليوم، بحسب تلك الشخصية، في حال إرباك واضح، وهو أمر يُستبعد معه لجوؤها إلى الهروب إلى الأمام بعمل عدواني خصوصاً تجاه لبنان، وإن كانت احتمالات التصعيد كبيرة جداً في غزة تحديداً. علماً أنّ الإعلام الإسرائيلي وبعد التطوّر الأخير وظهور فعالية وحسن استخدام صواريخ الكورنيت، بدأ يطرح الأسئلة والشكوك بقدرة الردع، ولعلّ ابرزها: هل ما زالت اسرائيل تعتبر أنّ غزة هي الحلقة الاضعف؟
تبعاً لذلك، تقدّم الشخصية الخبيرة في الشأن الإسرائيلي أنّ قراءة المشهد الإسرائيلي، تحوي الخلاصات الآتية:
– أنّ استقالة ليبرمان وخروج حزبه من حكومة نتنياهو. الإسرائيليون قالوا إنّ هذه الخطوة المفاجئة يقاربها الإسرائيليون بوصفها زوبعة في فنجان انتخابي. وإذا كانت هذه الاستقالة تشكل تهديداً لاستمرارية الحكومة الإسرائيلية، إلّا أنّ نتنياهو ما زال يعتقد أنه لا زال قادراً على الصمود أمام دعوات الانتخابات المبكرة، وأنّ في الإمكان الحفاظ على الائتلاف الحكومي القائم. حتى ولو كان الثمن خضوعه لابتزاز الأحزاب الدينية.
– أنّ المقاومة الفلسطينية هي التي هزمت ليبرمان. إنّ خروجه من الحكومة، بعد التهدئة التي تمّّ التوصل إليها بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل بوساطة مصرية، كان مؤشراً واضحاً الى أنّ غزة اليوم أكثر جرأة وقدرة على المواجهة من أيّ وقت مضى، وباتت قادرة على فرض معادلتها على الجميع.
وقد بدا جلياً في هذا السياق، أنّ سنوات الحصار والخنق لم تكسر المقاومين. ولا أدلّ على ذلك من «هجوم العلم» الذي استدرجت فيه المقاومة الفلسطينية الجنود الإسرائيليين إلى كمين محكم، نُفّذ بأعلى درجة من الاحترافية، وكان مؤشراً أوّلياً الى ما يمكن أن تؤول إليه الحال في حال اختارت القيادة الإسرائيلية الذهاب بعيداً في التصعيد. وفي جانبٍ آخر ثمّة نقاط أخرى ركّزت عليها المقاومة وتحسّنت قراءتُها، ولا سيما المناخ السائد في إسرائيل بشأن خطورة الانجرار نحو مواجهة عسكرية غير متوقعة النتائج، قبل عام على إجراء الانتخابات، خصوصاً أنّ التجارب السابقة في شنّ الحروب على غزة، وقبلها على لبنان، جرّت هزائم متتالية لمتّخذي قرار الحرب في تل أبيب.
– أنّ التقديرات العسكرية والأمنية لا تقبل بالذهاب إلى مغامرة عسكرية جديدة حتى ولو ارادها صقور ائتلاف «الليكود»، فلا الظرف العسكري ملائم، ولا المناخ الدولي مؤاتٍ لإشعال نيران لن يقتصر امتدادُ ألسنتها على المستوطنات في «غلاف غزة».
– أنّ طموح نتنياهو هو كسر الرقم القياسي لديفيد بن غوريون، في عدد سنوات الحكم.
ولا يرغب في الإقدام على أيّ خطوة قد يتأتّى منها ما يعيق هذا الطموح. فضلاً عن أنه لا يبدو رابحاً في أيّ تشويش على ما يعتبره انتصاراً لسياساته الإقليمية، والتي تمثّلت خلال الفترة الماضية بقطار التطبيع الذي قاده شخصياً إلى سلطنة عمان، وقاد وزراءَه إلى دول خليجية أخرى.
وبمعزل عن رغبة نتنياهو هذه، لا يبدو أنّ ثمّة ضوءاً أخضر، ولا حتى أصفر، من قبل الولايات المتحدة الاميركية للذهاب إلى تصعيد كبير، خصوصاً أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا يزال راغباً في اختبار سياسة العقوبات الاقتصادية، وهي سياسة يتماهى معها نتنياهو، لا بل إنه أكثر المحرّضين عليها، علاوة على أنّ سيّد البيت الأبيض، الخارج للتوّ من انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، يقترب من أن يفتح معركته الرئاسية الجديدة، ولا يبدو بالتالي راغباً في الانجرار وراء أيّ صداع خارجي مبكر.
– إنّ التحدّي الأكبر أمام نتنياهو، ليس فقط في كيفية احتواء التصعيد في غزة وتجنّب الإخفاق السياسي فيه، وليس فقط في تجاوز الأزمة السياسية وتداعيات استقالة ليبرمان، بل إنه يكمن في الخشية من انسحاب ما جرى على جبهة غزة، قبل أيام، على باقي الجبهات خلال الفترة المقبلة.
ماذا عن لبنان والمنطقة؟
تقول الشخصية الخبيرة في الشأن الإسرائيلي إنّ قراءة الصورة الإسرائيلية السياسية والعسكرية لا تعكس توجّهاً إسرائيلياً نحو حرب تجاه لبنان، وتحديداً ضد «حزب الله»، الإسرائيليون يريدون الحرب لكنهم يتجنّبونها، يريدون القضاء على «حزب الله»، وجربوا في محطات سابقة وفشلوا وآخرها حرب تموز، وهم الآن لا يستهينون بقوة الحزب، ويصدّقون نصرالله، حتى إنّ ما أثاره نتنياهو عن صواريخ للحزب قرب مطار بيروت، صار محلّ سخرية عبّر عنها الإعلام الاسرائيلي، لذلك توازن الردع موجود، ورهانهم اليوم على عقوبات وضغوط اميركية شديدة القسوة تمارَس على الحزب كبديل لأيّ عمل عسكري، قد لا تبقى محصورة على الجبهة الشمالية، إنما قد يفتح المنطقة على حرب اقليمية، من الصعب التكهّن بنتائجها.