Site icon IMLebanon

إسرائيل العادية في بيروت

 

لنا أن نتخيل كيف يمكن لتوقيف مخرج لبناني خلال عودته عبر مطار بيروت على خلفية زيارة له إلى إسرائيل قبل أربع سنوات، أن ينتهي. توقيف بتهمة التطبيع مع العدو، تليه محكمة عسكرية، ثم حكم رادع يضع حداً لمن قد يفكر في فعل تطبيعي آخر. والأهم حملة شعبية تنطلق بموازاة التوقيف والمحاكمة تطعن في التطبيع وأصحابه وتشهر بالمخرج أو الفنان أو المثقف، وتدفع إلى زاوية الخجل والخزي كل من قد تسول له نفسه «عقلنة» أو «تفَهُّم» أي شكل من أشكال الاتصال الثقافي «بالعدو»!

هذا المسار الطبيعي لتطور الأحداث في واقعة مماثلة في بلد كلبنان.

غير أن ما حصل مع المخرج اللبناني الفرنسي زياد الدويري، خالف كل تفاصيل هذا الإرث في التعاطي مع مسألة تتعلق بإسرائيل. في طريق عودته إلى بيروت بعد حضوره حفل توزيع جوائز «الأوسكار»، مشاركاً بفيلمه «قضية رقم 23»، أوقف الدويري استناداً إلى دعوى رفعت ضده العام الماضي على خلفية عيشه في إسرائيل مدة سنة واستعانته بممثلين وتقنيين إسرائيليين لتنفيذ فيلم «الصدمة» المستوحى من رواية الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا.

لم تكن المفارقة فقط في أن الدويري أخلي سبيله، بعد توقيفه بقليل في المطار، ولا في أنه حضر في اليوم التالي إلى المحكمة العسكرية وأخلي سبيله قضائياً، من دون توجيه تهمة إليه. المفارقة كانت أن مناهضي التطبيع بدوا غرباء، وصوتهم لا يصل أبعد من دوائر نظرائهم التي بدت ضيقة وصغيرة. على مواقع التواصل الاجتماعي، كان سهلاً وتلقائياً أن يجد الدويري من يدافعون عنه وعن خياراته المثيرة، أكثر بكثير مما وجد مناهضو التطبيع صدى لطعنهم واستنكارهم بشأن الاتصال بإسرائيل والإقامة في تل أبيب، وهي تفاصيل يفترض أنها لا تزال تثير حساسيات جدية في لبنان. بل بدا القانون نفسه ضعيفاً، والدويري خالف القانون صراحة، حين خضع لمزاج نخبوي وشعبي يعتبر أن التطبيع الثقافي، وجهة نظر، على النص القانوني التأقلم معها.

هذا اختراق غير مسبوق في وعي الجماعة اللبنانية.

أذكر من سنوات العمل الطلابي أن المخرج والصحافي إلياس خوري، وكان مديراً لمسرح بيروت، قرر أن يعقد ندوة تعالج موضوع الآخر في الأدب الإسرائيلي، ودعا للمشاركة فيها المهندس والسياسي اليهودي المغربي المناهض للصهيونية إبراهام سرفاتي. في ذلك الزمن ما كانت دعوة شخص كسرفاتي ممكنة، وفشلت محاولة إلياس خوري في إحداث خرق عبر مثقف «معنا»، فكان أن خضع الجميع لتهديدات أمنية تصدرها الحزب القومي السوري الاجتماعي، ولم يأتِ سرفاتي.

لكم أن تتخيلوا معنى أن يفشل إلياس خوري يومها وينجح زياد دويري اليوم، لقياس المسافة التي عبرتها المواقف من الصراع والعدو، والنقلات التي طرأت على التفكير «بالثوابت».

بعد قضية زياد دويري بأسابيع قليلة، حكم القضاء اللبناني غيابياً بالإعدام على حبيب الشرتوني ونبيل العلم المدانين باغتيال الرئيس الأسبق بشير الجميل قبل 35 عاماً.

الأصوات نفسها والمنابر ذاتها التي جندت في معركة الطعن بزياد الدويري وموقفه من إسرائيل، استنفرت للتذكير بأكثر علاقة إشكالية نشأت بين سياسي لبناني وإسرائيل، الذي جاء انتخابه رئيساً، نتيجة مباشرة للاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال عاصمته عام 1982. لكن ذلك لم يمنع اللبنانيين من الاحتفال علناً بالحكم على قتلة بشير، والدفاع عن خياراته، وصيانة شهادته ومعناها بالنسبة للبنان اليوم، من دون أن يخضعوا لأي ابتزاز يتعلق بتجربة بشير الإسرائيلية. حتى حلفاء حزب الله المسيحيون، حضروا الاحتفال المركزي، تصدرهم صهر رئيس الجمهورية، وزير الخارجية جبران باسيل.

كيف يمكن أن يصل الصراع إلى هذه «المشهديات» في بلد يحوي حزباً هو صاحب الصوت الأعلى، في ثقافة العدو، والعداء والصراع؟!

كيف تتفكك حصانة «الثوابت» التي تملأ هذا الخطاب، ويصير أصحابها شبه غرباء في لغتهم وخطابهم عن آخرين لا يجدون حرجاً في تبني وممارسة نقيضها؟

ثمة انهيار فيما يسميه حزب الله ثقافة المقاومة، أو «الثوابت الوطنية» في اللحظة نفسها التي يبدو فيها حزب الله ممسكاً بالبلاد والعباد. لا أزعم أنني أملك جواباً حيال هذا الاتجاه الجديد، أقله في علنيته وفي حماسة التعبير عنه وفي شيوعه خارج أطره المسيحية التقليدية. أحسب أن لمشاركة حزب الله في سوريا، وهول ما وصلنا من وقائع هذه الجريمة المتمادية بحق عشرات ملايين السوريين، دورا في ولادة هذا الاتجاه. وأحسب أن في استعاضة حزب الله عن المقاومة الفعلية لإسرائيل باللغو والخطابات، وتجيير مجهوده الحربي لمعارك إيران في المنطقة ضد العرب ومدنهم وحواضرهم، دورا أيضاً.

بين إنجازات حزب الله في سوريا، التي ذهب إليها بحسب دعايته لحماية المقاومة، أنه أسقط إسرائيل أو يكاد، كعدو وخطر وأولوية ومحرم، من وعي شرائح كبيرة لبنانية وعربية.

ما عاد يشعر كثيرون بخطر إسرائيل، ولا عاد كثيرون مقتنعين بها عدواً في سلم أولويات العداوة، إلا مداراة.

الأخطر أن مثل هذه الأمزجة تطفو على سطح القول السياسي في لبنان في لحظة الحرب المحتملة الأخطر بين إسرائيل ولبنان.

شكراً حزب الله.