في الأصل، يعدّ إحداث تعديلات جغرافية وبناء جدار على الحدود بين فلسطين المحتلة ولبنان إجراءً تكتيكياً بامتياز. إلا أنها في سياق حركة الصراع تختزل المعادلات التي فرضها حزب الله. وتشير أيضاً الى حجم التحوّل الذي استجد على الفكر الاستراتيجي لقادة جيش العدو بما ينطوي عليه من تسليم بمحدودية فعالية الردع ــ من دون إلغائه ــ وإقرار بصدقية حزب الله وقدرته على اختراق الحدود.
أسهبت تقارير إعلامية إسرائيلية، خلال الأيام الماضية، في الحديث عن ورشة بناء جدران يقوم بها جيش العدو على الحدود، في العديد من النقاط التي يُقدِّر أنها قد تشكل ثُغَراً تسمح للحزب بالتسلل منها، أو حتى الاستفادة منها في عمليات القنص. ويأتي ذلك، بعد إجراء مناورات تتصل بإخلاء مستوطنات قريبة من الحدود في سياق أي مواجهة شاملة. وقبل ذلك، عمل سلاح الهندسة على بناء جرف حاد وشاهق في أكثر من نقطة حدودية، بهدف تحويلها الى حاجز طبيعي يصعب تجاوزه. مع أن إجراءات العدو المشابهة شملت كل الحدود البرية مع المحيط العربي، لكنها مع لبنان تأتي في سياق خطة شاملة تتناول كامل الحدود، واستعداداً لسيناريو يتخذ فيه حزب الله قراراً بالرد على عدوان إسرائيلي، عبر إرسال قوات النخبة لديه للتوغل في «شمال إسرائيل».
في المقابل، فإن إسرائيل التي تطورت قدراتها التدميرية والتكنولوجية الى مستويات لم تشهدها طوال تاريخها، هي نفسها التي تراجعت خياراتها العملانية من دولة تستند في إزالة التهديدات إلى تدمير قدرات العدو واحتلال أرضه، إلى تبني منظومة عقائد هجومية ودفاعية، من ضمنها وضع عراقيل طبيعية واصطناعية تهدف الى الحؤول دون توغل واقتحام مجموعات حزب الله الحدود.
على ذلك، فإن الخلاصة الأهم من كل هذه الإجراءات الدفاعية، (المقرونة بخيارات هجومية تدميرية) أن لجوء إسرائيل إليها لم يأتِ إلا نتيجة إقرار من أعلى المستويات بفشل المبادئ العسكرية التي اعتمدتها «الدولة العبرية» منذ إقامتها، والقائمة على ردع الأعداء من التخطيط والمبادرة العملانية، وعلى الثقة بقدرات إنذار تسمح لها باستشراف التهديدات، ثم المبادرة الى توجيه ضرباتها الوقائية والاستباقية.
في السياق نفسه، تحكي هذه الإجراءات قصة التحول الاستراتيجي الذي استجد على معادلات الصراع. وخلاصتها أن «الدولة الإقليمية العظمى» التي استندت طوال تاريخها الى مبدأ نقل المعركة الى أراضي العدو، ووصلت في ضرباتها الى تونس في عام 1985 وإلى العراق في عام 1981… ووصلت الى بيروت عام 1982، هذه «الدولة» هي نفسها التي تتخذ إجراءات دفاعية في محاولة للدفاع عن مستوطناتها من داخل «أراضيها».
الوجه الآخر لتبني هذه العقيدة الدفاعية يُظهر أنها لم تتبلور إلا نتيجة إقرار قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين بجدية التهديدات التي لوّح بها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، لجهة السيطرة على الجليل، وتسليمهم بفشل قدرة الردع على ثنيه عن توجيه أوامره بتنفيذ مثل هذه التهديدات، وبأن رجال حزب الله يملكون جميعاً التصميم والقدرة على تنفيذها.
لذلك، فإن إجراءات إسرائيل تنطوي أيضاً على رسائل أقل ما يمكن القول فيها إن قادتها بدأوا يتعاملون انطلاقاً من التسليم بمحدودية قوتها، رغم تفوقها النوعي والكمي الهائل في مقابل لبنان وحزب الله.
أيضاً، لا يستطيع قادة إسرائيل إنكار أو تجاهل الحقيقة المُرة التي لم يتصوروا أنهم سيضطرون يوماً ما الى التسليم بها أمام جمهورهم، وهي أن جيشهم لم يعد قادراً على توفير الأمن والحماية له في أي حرب مقبلة مع حزب الله، لا من الصواريخ وحسب، وإنما أيضاً من توغل عناصره في المستوطنات. لكن السؤال الأهم: ما هو اقتراح جيشهم لحمايتهم؟ الجواب لم يكن عبر إقامة حزام أمني في أراضي الآخرين، كما فعلت في لبنان طوال 15 عاماً أدت الى كيّ وعي الجمهور والقيادة في إسرائيل عن محاولة التفكير بتكرارها. وليس عبر الاتكال على الثقة بقدرة الجيش على إزالة التهديد من خلال الحسم، ولا على الركون الى فعالية قدرة ردعه، ولا على التشكيك بجدية حزب الله وقيادته. وإنما على التسليم بجديتهم وتصميمهم وقدرتهم، وأن هذا السيناريو سيتحقق في يوم من الأيام.