أولاً ماذا لا تريده إسرائيل؟
إسرائيل لا تريد غزو لبنان كما فعلت سنة 1982. صحيح أنها حققت هدفها من ذلك الغزو وتخلصت من المقاومة الفلسطينية على حدودها الشمالية، بعد أن دفعتها إلى مغادرة لبنان إلى تونس، ولكنها شهدت في الوقت نفسه ولادة حزب الله وبداية مقاومة جديدة أدت إلى انسحابها من لبنان سنة 2000. كما لا تريد إعادة تجربة الشريط الحدودي الذي أسسته في نهاية ذلك الغزو الذي كلفها مئات القتلى والجرحى في صفوف جيشها. هذه التجربة الفاشلة حولت سياسة إسرائيل تجاه لبنان من سياسة هجومية إلى سياسة دفاعية، أقله في الوقت الحاضر. فهي اليوم تريد، قبل كل شيء، حماية نفسها من المخاطر التي تواجهها بوجود مقاومة على حدودها الشمالية، ولكن دون غزو شامل ودون شريط حدودي واسع كما كان الحال مع الشريط الحدودي الذي تبع الغزو.
تتخوف إسرائيل من خطرين أساسيين يأتيان من المقاومة في لبنان.
ألخطر الأول هو صواريخ المقاومة خاصة الصواريخ الدقيقة والبعيدة المدى. فتأسيس شريط حدودي كما في الماضي لا ينفع بالنسبة لمثل هذه الصوارخ. فإطلاق صاروخ بعيد المدى من بعد ستة كيلومترات من الحدود هو بنفس الفعالية تقريباً كإطلاقه من الحدود. ولذلك فالوسائل التي تستعملها إسرائيل في هذا المجال مختلفة. أولاً إضعاف قدرات حزب الله اللوجستية والميدانية من خلال أعمال تخريبية، كما حصل بالنسبة لهجوم البايجر، أو إغتيالات للقيادات السياسية والميدانية للمقاومة. ثانياً هدم الأماكن المدنية وقتل أكبر عدد من المدنيين من البيئة الحاضنة للمقاومة وهذا ما سمح لها به «المجتمع الدولي» بقيادة أميركا في غزة وفي لبنان. وصل الأمر ببعض قيادات هذا المجتمع الدولي إلى محاولة تغيير مفاهيم اتفاقات جنيف ذات الصلة، كما عندما قالت وزيرة خارجية ألمانيا أمام برلمان بلدها مؤخراً بأن حماية الأماكن المدنية يسقط بمجرد دخول إرهابيين إليها، مبررة بذلك عمليات تدمير إسرائيل للمدارس والمستشفيات في غزة. ثالثاً دعم القبة الحديدية بأسلحة أكثر تطورا،ً تقدمة من البنتاغون، كنظام صواريخ ثاد الذي استلمته إسرائيل مؤخراً. ورابعاً السماح لإسرائيل باستهداف أماكن أو قوافل عسكرية في أية دولة مجاورة لمجرد الشك بأنها تُستعمل لنقل أسلحة إلى المقاومة رغم اتفاقية وقف الأعمال العدائية التي توصلت إليها الأطراف.
الخطر الثاني الذي تعتبره إسرائيل محدقاً، ولربما وجودياً على أمنها، هو أن تقوم المقاومة بأسر مستوطنين إسرائيليين من مستوطنات الشمال كما فعلت حماس في 7 أوكتوبر 2023 في مستوطنات غلاف غزة. خطة الدفاع هنا تتلخص بالأرض المحروقة وخلق منطقة عازلة، خاصة في الأماكن الحدودية التي قد تستعملها المقاومة لتنفيذ عملية أسر مواطنين إسرائيليين. تريد إسرائيل أن تكون هذه المناطق غير مأهولة وغير سالكة للآليات وبعمق يجعل اختراقها على الأقدام، أو بطرق بدائية، ذهاباً وإياباً، يتطلب وقتاً كافياً لمراقبته وإفشاله. ولذا فإسرائيل تريد السيطرة على المرتفعات المحيطة بهذه المناطق والواقعة داخل الأراضي اللبنانية كما أنها أخذت وعداً من الأميركيين بالمساعدة في مراقبة هذه المناطق من خلال الأقمار الصناعية وتكنولوجيات أخرى متقدمة.
نتيجة لكل ذلك، فانسحاب إسرائيل وعودة الأمور إلى طبيعتها في لبنان لن تكون سهلة وتطبيق قرار وقف الأعمال العدائية ومندرجاته لن يكون سلساً أو سريعاً كما هو مخطط له.
أول عقدة ستعترض التطبيق ستأتي من إصرار إسرائيل على حق متابعة ضرب الأماكن والقوافل التي تشك بكونها تخدم إعادة تسليح المقاومة وأن يكون لها الحق بمهاجمتها أينما كانت، على الأقل في لبنان وسوريا، ما يشكل خرقاً لسيادة الدولتين، خاصة إذا شملت الإعتداءات إغتيالات قياديين في المقاومة كم تفعل إسرئيل حتى الآن. من غير المنتظر أن يعارض المجتمع الدولي، بقيادة أميركا ترامب، وبالتحديد لجنة المراقبة، أن يعارض بشدة هذا المطلب الإسرئيلي وعليه بالتالي أن يجد الصيغة المناسبة لإيجاد حل له ما سيتطلب وقتاً كبيراً في المفاوضات.
العقدة الثانية تنبع من أن إسرائيل ستصر على وجود مساحة على الحدود بشكل أرض محروقة وهذا يعني أنها ستحاول منع سكان هذه المناطق من العودة إلى ديارهم، وإعادة بناء منازلهم وممتلكاتهم، على أساس أنها مناطق عسكرية. فإسرائيل تعتبر أن هذا الشريط سيكون المحفّذ الفاصل لعودة المستوطينين إلى شمال الكيان. هذا الموقف الإسرائيلي قد يتعارض مع إرادة الإدارة الأميركية الحالية والآتية ولكن من الصعب على أي منها مواجهة إسرائيل واللوبي الإسرائيلي الأميركي حول مسألة كهذه تعتبرها إسرائيل وجودية.
وهكذا، فقرار وقف الأعمال العدائية لن يطبق خلال مدة ألـ60 يوما التي يمنحها القرار. وستتحجج إسرائيل في البداية بأن حزب الله لم ينسحب حقاً إلى ما وراء نهر الليطاني ثم أنه لم يسلم أسلحته وما زال يشكل خطراً وجودياً عليها وبعد أن تستهلك هذه الحجج، ستحاول الحصول على غطاء أميركي لكي تبقى في المناطق الحدودية اللبنانية إلى أجل غير مسمى.
نتيجة القول هي أن المشروع الإسرئيلي، بحده الأدنى، يجعل تطبيق قرار وقف الإعمال العدائية عملية طويلة ومعقدة، وبحده الأقصى مشروع حروب جديدة في المنطقة لا تُعرف عقباها.