لم يعد هناك كثيرٌ من الحظوظ لتوقيع اتفاق الترسيم بين لبنان وإسرائيل في الأسابيع القليلة المقبلة، وتحديداً قبل أيلول، كما توقَّع الكثيرون. ويتذرَّع الإسرائيليون بأزمتهم السياسية الداخلية لتبرير المماطلة. فهل يخبئون أهدافاً ستظهر لاحقاً؟
الذريعة التي يعلنها الوسط السياسي في إسرائيل هي أنّ حكومة يائير لبيد في وضعية الانتقالية، وتالياً انّها ليست مؤهّلة لاتخاذ قرارات حسّاسة من نوع التنازلات المفترضة على الحدود مع لبنان، بما فيها من ثروات من الغاز والنفط.
ويوحي الطاقم السياسي في إسرائيل، بأنّ الوقت قد أصبح داهماً للانتخابات التشريعية المبكرة، المقرّرة في أول تشرين الأول، أي في مدى 6 أسابيع فقط. ومن الأفضل أن تتمّ الانتخابات وتتألف حكومة جديدة كاملة الصلاحيات، تترجم تمثيلاً سياسياً أوسع، فتكون جديرة بحسم القرار في ملف الترسيم مع لبنان.
عملياً، يستعد بنيامين نتنياهو للعودة، على رأس المعسكر اليميني. فالانتخابات المقبلة ستكون حاسمة في تقرير مستقبله السياسي. لكن المؤشرات، حتى اليوم، لا توحي بقدرته على حسم تأليف حكومة، في مقابل المعسكر اليساري. ما قد يعني استمرار المأزق السياسي بعد الانتخابات، أي تكرار سيناريو العجز عن الحسم، كما جرى حتى اليوم في 4 استحقاقات على مدى 3 سنوات مضت.
ولذلك، يحاول لبيد استخدام سلاح نتنياهو نفسه، أي سلاح التطرّف والتشدّد والرفض، لإثبات نفسه عشية الانتخابات. وهو ما عبّرت عنه الحملة العنيفة وغير المبرَّرة التي شنّتها حكومة لبيد على تنظيم «الجهاد الإسلامي» في غزة، والتعثّر غير المبرَّر والغامض في التعاطي مع المطالب اللبنانية في ما يتعلّق بملف الترسيم البحري.
يرسل لبيد إشارات إلى المتشدّدين داخل الرأي العام الإسرائيلي مفادها أنّه ليس أقل حرصاً على مصالح إسرائيل الأمنية من نتنياهو، وأنّه يتصدّى لنفوذ إيران، سواء من خلال حلفائها في غزة ولبنان أو من خلال التشدُّد في رفض إحياء اتفاق فيينا، ما لم يتضمَّن تنازلات من جانب طهران في ملفها النووي ونفوذها الإقليمي.
وعلى الأرجح، ينتظر الإسرائيليون اليوم ما ستنتجه المساعي الإوروبية في مسألة الاتفاق النووي، وعلى هذا الأساس سيحدّدون مسارات التفاوض وحجم التنازلات الممكن تقديمها إلى إيران والقوى الحليفة لها في الشرق الأوسط، ولاسيما «حزب الله» في لبنان.
وفي خلفية الكلام المتداول في إسرائيل، أنّ أي طرف سياسي هناك لا يريد تحمُّل المسؤولية عن التنازلات المتوقعة لمصلحة لبنان، والتي وصفها بعض الإعلام الإسرائيلي بأنّها مؤلمة، ما ينعكس عليه سلباً في الانتخابات، وأنّ توقيع الاتفاق مع لبنان يستلزم حكومة تحظى بأوسع مشروعية شعبية ممكنة، لئلا يُتَّهَم أي طرف بأنّه فرَّط بالحدود وموارد الغاز.
ولكن، ثمة مَن يعتقد أنّ هذه التبريرات قد لا تكون هي الأساس، بل واجهة لإخفاء أهداف أخرى. ففي العادة، يتذرّع الاسرائيليون بأزماتهم السياسية الداخلية عندما يداهمهم الوقت ويجدون أنفسهم مضطرين إلى حسم خيارات لم تنضج بما يتناسب ومصالحهم، ولطالما استخدموا هذه الذرائع للتهرُّب من الاستحقاقات وإحباط الوساطات في الملفات المتعلقة بالفلسطينيين أو الأطراف العربية الأخرى كمصر والأردن.
فالمصالح العليا في إسرائيل يجري تأمينها عادةً، وبلا تأخير، وفي معزل عن تركيبة الحكومة ووضعيتها ومدى التوافق أو التنازع بين القوى السياسية والحزبية. وعندما تماطل الحكومات الإسرائيلية في حسم مسألة معينة، فغالباً ما يكون الأمر متعلقاً بالرغبة في المناورة والمساومة، والسعي إلى تحقيق المزيد من المكاسب.
وعلى الأرجح، هذا الأمر هو السبب الحقيقي للصمت الإسرائيلي تجاه الطرح اللبناني في ملف ترسيم الحدود، والقاضي باعتماد الخط 23 بلا تعديل، مع إضافة تعرُّج طفيف جنوب حقل «قانا»، بحيث يصبح بكامله مُلكاً للبنان.
فمن قواعد المساومة التي يعتمدها الإسرائيليون، الضغط والمفاوضة لدفع الطرف الآخر إلى التنازل من السقف المرتفع إلى سقف أدنى، والاكتفاء به. وحينذاك، يقومون بعملية ضغط ومفاوضة جديدة لدفعه إلى التنازل نحو سقف جديد… وهكذا دواليك، يتمّ ابتزاز الخصم مراراً وتكراراً على جولاتٍ حتى يتعب، ويحصل الإسرائيليون على أكبر قدر من المكاسب.
واليوم، بعد اقتناع الجانب اللبناني بالتراجع من الخط 29، واعتباره «خطاً تفاوضياً» لا أكثر، والعودة إلى الخط 23، فإنّ إسرائيل قد تكون على وشك إبلاغ الوسيط الأميركي رفضها هذا السقف، بذريعة أنّه كان السقف الذي طالب به المفاوض اللبناني عند انطلاق المفاوضات في الناقورة، ومن البديهي أن يتنازل عنه من أجل التوصل إلى اتفاق.
ويعني ذلك أنّ إسرائيل ربما تعود قريباً إلى التلويح بالعودة إلى ما دون الخط 23، وفي عبارة أكثر وضوحاً، إلى تسوية تقترب من خط الوسيط الأميركي السابق فريدريك هوف، الذي يقسم مساحة 865 كلم2 هي موضع الخلاف، بنسبة الثلث لإسرائيل والثلثين للبنان. وهذا العرض رفضه لبنان تماماً. وهو ما يعيد الأزمة إلى الصفر.
لكن العامل الضاغط في إسرائيل هو الرغبة في استعجال استثمار الغاز من حقل «كاريش»، في أيلول، وفقاً للاتفاق المعقود مع الشركة اليونانية «إينرجين»، والاستفادة من ارتفاع أسعار الطاقة وحاجة أوروبا الملحّة إلى غاز الشرق الأوسط، تعويضاً للغاز الروسي. وهذا العامل يضيِّق على إسرائيل هامش المناورة والمماطلة.
ولذلك، سيكون الإسرائيليون أمام أحد احتمالين:
1- المغامرة ببدء الاستخراج، من دون اتفاق مع لبنان، ما يقود حتماً إلى انفجار كارثي للوضع الأمني والعسكري في بقعة الغاز وربما أوسع منها بكثير. وهو أمر لا يتحمَّله الإسرائيليون، ولو قدّموا له بعرض عضلات في غزة.
2- تأجيل الأمر أسابيع أخرى لتبيان نتائج المفاوضات في فيينا. وفي الخضم، يمرّ استحقاقهم الانتخابي وتتشكّل حكومة جديدة، ما قد يفتح الباب لمعطيات جديدة. وهذا الخيار ربما يكون الأرجح.