لا حاجة للتكرار بأنّ الانعكاسات السلبية للموجة الأولى لوباء كورونا حفرت عميقاً في الواقع الاقتصادي العالمي وأحدثت تفسخات خطيرة على مستوى العلاقات السياسية الدولية، وأرهقت خصوصاً اقتصادات الدول الضعيفة وجعلتها تقف عاجزة امام تحديات مستقبلية، وهنا بيت القصيد.
وفي ذروة تفشّي الوباء، انشغلت المراكز الطبية والمختبرات العالمية في إيجاد أدوية لفيروس كوفيد-19، لكنّ دوائر التخطيط الامني انشغلت بمهام اخرى تتعلق باستثمار الواقع الجديد لصالح مشاريعها السياسية، وعلى اساس انّ الوباء يشكل فرصة لا العكس.
في اسرائيل وبعد 3 انتخابات متلاحقة، جرى التفاهم على تشكيل حكومة ائتلافية. والواضح انّ هذه الحكومة ما كانت لتبصر النور لولا الرعاية المباشرة للبيت الابيض لها، وهذا ما تجلّى بوضوح مع دعوة زعيم حزب «أزرق أبيض» بيني غانتس الى واشنطن للمشاركة الى جانب رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو في حضور اعلان الرئيس الاميركي لخطّة القرن. ولا حاجة للتأكيد بأنّ هذا الحضور كان يمهّد سلفاً وقبل حصول الانتخابات الثالثة، لحكومة الوحدة الوطنية.
لا شك في أنّ دوافع الذهاب الى حكومة وحدة وطنية هي في الواقع سياسية كبرى أكثر منها انتخابية ومحلية. فثمّة مشروع كبير ربط نتنياهو بغانتس وتولّى البيت الابيض رعايته من ألفه الى يائه.
وفي نظرة تاريخية سريعة يتبيّن انّ تشكيل حكومات الوحدة الوطنية مرتبط بوجود أزمات أمنية وسياسية، إمّا لخوض حرب، او للتعامل مع ازمات كبرى قائمة او متوقعة.
فإنّ أول حكومة ائتلافية اسرائيلية تشكلت فور اعلان قيام دولة اسرائيل وعرفت حينذاك بالحكومة المؤقتة.
وفي اول حزيران 1967 ولدت الحكومة الـ13 وكانت ائتلافية برئاسة ليفي اشكول وضمّت موشي دايان كوزير للدفاع، وبعد 5 ايام شنّت اسرائيل حرباً شاملة وضمّت عدّة اراض عربية جديدة.
وفي العام 1969 شكّلت غولدا مائير حكومة وحدة وطنية ضمّت اليها مناحيم بيغن، وكانت مهمتها إجهاض حرب الاستنزاف التي تشنّها مصر على اسرائيل.
وفي العام 1988 حكومة وحدة وطنية برئاسة اسحق شامير واكبت حرب الخليج الاولى، وفتحت الطريق امام المؤتمر الدولي للسلام في مدريد.
لأجل كل ما سبق، لا بد من أن نَعي جيداً ماذا تعني حكومة الوحدة الوطنية في اسرائيل. ففي الاساس إنّ حزب «أزرق أبيض» هو حزب الجنرالات، بعدما أسّسه رؤساء أركان سابقون، وما لبث ان انشَقّ عنه يائير ليبيد بسبب التفاهم مع «الليكود»، لكنّ الحكومة الائتلافية لحظت إعطاء حقيبتي الدفاع لغانتس والخارجية لغابي اشكينازي.
الصورة لا تبعث على الارتياح والمجال الزمني الحيوي لها حُدّد بسنة ونصف سنة، أي فترة ترؤس نتنياهو للحكومة. وخلال هذه الفترة هناك كثير من الاستحقاقات الاساسية في المنطقة.
هناك قرار ضمّ أكثر من ثلث الضفة الغربية، ما سيُشعل مواجهات دموية، والسير في تطبيق يهودية الدولة. والوضع في الاردن من خلال تحقيق فكرة تقسيمه الى دولتين ما يسمح بتحقيق الترانسفير المطلوب. وهنالك الانتخابات الرئاسية في سوريا، وسَعي اسرائيل لإخراج ايران نهائياً من سوريا وتكريس ضَمّ الجولان الى اسرائيل.
وهنالك ايضاً ترسيم الحدود النهائية مع لبنان وترتيب واقع جديد على وقع الخريطة الجديدة في سوريا والعراق، خصوصاً تحت وطأة الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي الذي يعيشه اللبنانيون، والذي سيعطي لا محال صندوق النقد الدولة اللبنانية. و”حزب الله” الذي أعطى إشارات غير معترضة على معالجة الصندوق الاقتصادية، لا شك انه قلق من الرؤيا السياسية التي قد يحملها صندوق النقد خلف ظهره.
وخلال الاسابيع الماضية كان لافتاً تكثيف اسرائيل غاراتها على مواقع محسوبة على ايران في سوريا. وتزامَن ذلك مع موقف أعلنه وزير الامن الاسرائيلي نفتالي بينيت بأنّ الهدف الاسرائيلي هو إخراج ايران عسكرياً من سوريا قبل نهاية 2020. وقال: لقد انتقلنا من مرحلة منع ايران من التجذّر في سوريا الى مرحلة إخراجها.
لكنّ الهدف الاسرائيلي يبدو طموحاً بعض الشيء، فالضغط الجوّي وحده لا يكفي. والحرب العسكرية غير واردة بسبب الوضع الرديء للوحدات القتالية للجيش الاسرائيلي، أضف الى ذلك أنّ روسيا قد تستفيد من تحجيم نفوذ ايران في سوريا بعض الشيء، لكنّ حضورها على المستوى الاستراتيجي قد يتضرّر اذا خرج النفوذ الايراني بالكامل من سوريا.
وصحيح انّ لغة البيت الابيض والبنتاغون ومايك بومبيو أضحت اكثر حزماً تجاه ايران، لكن مع فارق انّ المفردات المستخدمة تدخل في إطار التطويع لا التمهيد للحرب.
لكنّ الواقع الضاغط الذي تراهن عليه اسرائيل ومعها واشنطن لا يقتصر على كورونا فقط. فتنظيم «داعش» باشَر باستعادة حركته وعملياته الدموية في شمال العراق، ولن يطول الامر قبل التمدّد الى شمال شرق سوريا.
وهنالك واقع إضافي يتعلق بانهيار اسعار النفط وتراجع المداخيل، ما قد يؤدي الى ابتعاد «الوكلاء» عن رعاتهم الاصليين، طلباً للبحث عن رعاة جدد، او في أحسن الاحوال تراجع مقدار الفعالية لهؤلاء بسبب تراجع المداخيل.
كل هذه الظروف تفتح الطريق امام التَحضّر لمتغيرات كبيرة. منذ مئة عام بالتمام، عقد مؤتمر للحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الاولى في مدينة سان ريمو في ايطاليا، وشارك فيه رؤساء حكومات ايطاليا وفرنسا وبريطانيا وسفير اليابان وبلدان اخرى، بهدف البحث في شروط الصلح مع تركيا طِبقاً لمعاهدة سيفر التي جرى إلغاؤها، اضافة الى البحث في اعلان سوريا استقلالها ومناداتها بالأمير فيصل ملكاً عليها. ولفت حضور مؤتمر سان ريمو وفد يهودي، ما أدى الى إدراج وعد بلفور من ضمن قرارات المؤتمر رغم اعتراض فرنسا.
ومن أبرز بنود المؤتمر، وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ووضع فلسطين والعراق تحت الانتداب البريطاني، ما سَهّل هجرة اليهود الى فلسطين لإنشاء وطن قومي لهم، وتزويد فرنسا بنسبة 25 % من حصص النفط العراقي.
بعد مئة عام تبدو الظروف وكأنها نضجت لإحداث واقع جديد في المنطقة. قائد شعبة التخطيط في الجيش الاسرائيلي قال انّ لإسرائيل مهمات كثيرة «لن ينتظرنا أحد لتنفيذها، وعلى دائرة الابحاث العودة الى تجميع اهداف للأمور المهمة في المعركة».
وفي لبنان نزاع ضيّق على السلطة والنفوذ والمال، فيما اللبنانيون تغيروا، والعالم بالقرب منّا يُنبئ بتحولات وخضّات وأطماع اسرائيلية لا حدود لها.