سواء كان صحيحاً خبر الاجتماع السوري- الإسرائيلي في قاعدة حميميم الروسية أو مفبركاً، فكلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوحي بالكثير: «لا نريد استخدام سوريا، لا لاستهداف إسرائيل، ولا ساحة مواجهة بينها وبين إيران». ومراراً قال الرئيس بوتين لنتنياهو: إذا رصدتم تهديداً لكم في سوريا، أخبرونا، فنحن نتولّاه. وما زلنا عند هذا الطرح».
يبدو الروس مصممين على أن يأخذوا ملف سوريا على عاتقهم، بكامل تفاصيله، لتكون لهم الحصّة الكبرى في تقرير مستقبلها، مستفيدين من كونهم الطرف الوحيد غير المعادي لأيّ من القوى المتنازعة هناك (إسرائيل، تركيا، إيران والولايات المتحدة).
وترتكز مقاربة موسكو للملف إلى القاعدة الآتية: هناك مطالب «مشروعة» في سوريا لكل من هذه القوى. والأفضل أن تتولّى موسكو بنفسها ضمان هذه المطالب وإراحة الجميع، فتكسب امتياز إنجاز التسوية ورعايتها.
ينظر الروس إلى دمشق بوصفها نقطة ارتكازهم الإقليمي الوحيدة. والقوى الإقليمية والدولية، بما فيها إسرائيل والولايات المتحدة، تعترف لهم بهذا الدور، ما دام يراعي الخيارات التي يتجّه إليها الشرق الأوسط. ومن هنا يبدأ التباين بين الحليفين المتعايشين في سوريا: موسكو وطهران.
فالمناخ يتغيّر في المنطقة: الإدارة الأميركية انتقلت من نهجٍ إلى آخر، وعمليات التطبيع تتسارع بين إسرائيل والعرب، ما دفع الروس إلى إطلاق مبادرتهم سريعاً.
أرسل بوتين وزير خارجيته سريعاً إلى دمشق، منتصف كانون الأول الفائت، في محادثات قيل إنّها تناولت مخارج سياسية ودستورية مستعجلة، وإنّ الجانبين سيستكملان بحثها في زيارة لموسكو يقوم بها الأسد قريباً، وترتبط خصوصاً بالانتخابات الرئاسية المقرّر إجراؤها في سوريا بين 16 نيسان و16 أيار المقبلين.
مبدئياً، لا مبرّر لتأجيل هذه الانتخابات. وبالتأكيد، ووفقاً للشروط التي أُضيفت للترشّح، هي ستكرّس بقاء الرئيس بشّار الأسد لولاية ثالثة. وفي أي حال، ليس بين القوى الإقليمية والدولية كلها مَن يتحمَّس لإخراج الأسد من السلطة. وعلى العكس، المرحلة الآتية ستشهد محاولات تطبيع للأسد داخل النظامين العربي والدولي.
يريد بوتين أن تكون الانتخابات محطة مفصلية لتشريع بقاء الأسد في السلطة، بمباركة إقليمية ودولية، أي عن طريق تسوية داخلية وخارجية تنهي مأزق المواجهة المستمرة هناك منذ 2011. ولبلوغ هذه الغاية، بدأ بوتين حراكاً سريعاً واستثنائياً.
الحل الروسي يريح الأسد طبعاً، لكن العقدة تكمن في الثمن المطلوب تقديمه هنا، وهو يتعلق أساساً بإيران.
إذا أُجبِر الجميع على التسليم بالأساس، أي ببقاء الأسد، فإنّه لا تعود هناك مشكلات حقيقية أمام الشق الداخلي للتسوية. ومراعاةً للشكل، يُتاح هامش من التنوّع السياسي للمكوِّنات السياسية داخل مجلس الشعب والحكومة.
المشكلة هي: هل ستوافق إيران على الثمن المطلوب؟ أي هل ستتحمَّل التضحية، وفكّ الارتباط بينها وبين نظام الأسد وسحب نفوذها من هناك؟
تشكِّل سوريا حلقة حيوية لإيران، لا يمكن الاستغناء عنها لتشكيل «الهلال الشيعي». وستكون خسارة الإيرانيين لسوريا ضربة قاضية لهذا الهلال، لأنّها ستعني دفعةً واحدة:
1 – فقدان سوريا نفسها، الجغرافيا والنظام والفضاء الذي يسمح لقوات إيران وحلفائها بأن تكون على تَماسّ مع 4 جبهات: إسرائيل جنوباً، تركيا شمالاً، الولايات المتحدة في الشمال الشرقي، وروسيا في الداخل. وكذلك خسارة المنفذ السوري على المتوسط.
2 – فقدان لبنان الدولة المركزية التي تمتلك إيران قرارها اليوم، وخسارة القدرة على مدِّ «حزب الله» بالمساعدات على أنواعها، ما يقود إلى تراجع قدراته ونفوذه. وكذلك خسارة خطّ التماس مع إسرائيل والمَنفذ اللبناني على المتوسط وأوروبا الغربية.
عملياً، إنّ خروج إيران من سوريا يؤدي إلى فقدانها أوراقاً حيوية جداً لمشروعها التوسعي. وبعده سيتوقف نفوذها عند حدود العراق. وهذا يعني القضاء على طموحاتها الإقليمية كإمبراطورية.
واضح أنّ إسرائيل تصرّ على إبعاد إيران عن سوريا. وهذا هدفها من الضربات القاسية المتتالية التي تسدّدها إلى المواقع الإيرانية هناك. لكنّ اللافت هو أنّ إسرائيل لا تتعرض لأهداف تخصّ «حزب الله» في لبنان، على رغم التهديدات، في ما يبدو وكأنّه تفاهم ضمني مع الولايات المتحدة يقضي بإبعاد إسرائيل عن الملف اللبناني.
ويعتقد المتابعون، أنّ الاتجاه في سوريا سيقود إلى صفقة متكاملة، في الأشهر المقبلة، قد تؤدي عملياً إلى فك ارتباط النظام بإيران، مقابل تثبيت سلطته وترتيبات تراعي نفوذ القوى الإقليمية والدولية وإراداتها، حيث هي اليوم في جنوب سوريا وشمالها وشرقها.
وفي هذا السياق، ربما يصبح طبيعياً الكلام على اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل، برعاية روسية ومباركة أميركية. وسيكون ذلك مفتاحاً لعودة العرب إلى الأسد ولعودة الأسد إلى العرب.
إذا حصل ذلك، فسيتغيّر لبنان جذرياً. سيصبح في كوكب آخر. ولكن، في أي اتجاه: سلباً أم إيجاباً؟
إذا تمكّن اللبنانيون من إنجاز الحلول بأيديهم سريعاً، ومن إدارة شؤونهم بأنفسهم، فعلى الأرجح ستُكتَب لهم النجاة. أمّا إذا استمرّوا في مسار الانحدار والاهتراء، وتلذَّذوا بالفشل كما في مراحل سابقة، فلا شيء يَحول دون وقوعهم مجدداً ضحايا المساومات والوصايات الجاهزة، أو الجاري تحضيرها ربما، وما أكثرها.