لم تقدّم إسرائيل اعتذاراً صريحاً الى الأمم المتحدة، والحكومة الإسبانيّة، ولا تزال قضية الجندي الذي استشهد في الجنوب تتفاعل. كان مندوب إسبانيا واضحاً في مجلس الأمن: «إسرائيل قتلته»، هكذا أفضَت التحقيقات. كان هناك تعمّد إسرائيلي، فالمكان معروف لدى كلّ الأطراف المعنيّة، ولم يكن الموقع الإسباني طارئاً أو مُحدثاً، وقد اتخذت القيادة العسكريّة الإسرائيليّة قراراً صريحاً بقصف محيطه كرسالة احتجاج، كونها تعتقد أنّ مخابرات «اليونيفيل» كانت على علم بعملية التسلل التي نفّذتها مجموعة «حزب الله» داخل مزارع شبعا، ولم تحطها علماً بالأمر مسبقاً.
هدأت ميدانيّاً، لكنّ الصفحة لم تطوَ بعد. كان هناك عتب إسباني – أوروبي – أممي على لبنان، لم يبادر فوراً الى دعوة مجلس الأمن الى الانعقاد، لقد سبقته فرنسا.
حجّته أنه لم يتمكّن من استيعاب ما حدث إلّا بعد مرور ساعات، كان خلالها مجلس الأمن على أهبة الإنعقاد تجاوباً مع الدعوة الفرنسيّة العاجلة، وحاولت الديبلوماسيّة اللبنانية في اليوم الثاني استدراك الوضع، فتقدّمت وزارة الخارجيّة بشكوى عاجلة الى الأمم المتحدة ضدّ إسرائيل لقصفها الجنوب ومركز المراقبة التابع للكتيبة الإسبانية، لكنّ الطيور كانت قد طارت بأرزاقها، فانعقد المجلس، وقرّر ما وجده مناسباً، وأبقى جلساته مفتوحة لمتابعة المستجدات في حال حصولها.
المتداول في الكواليس الديبلوماسيّة أن إسرائيل كانت المبادر الى خرق قواعد الإشتباك، وقد تعمّدت قصف القرار الدولي 1701، ومندرجاته، كذلك تعمّدت أن يكون خرقها موجعاً من خلال قصفها الحاجز الإسباني مباشرة.
وتعتبر أوساط الأمم المتحدة أنّ موقف «حزب الله»، إنما جاء كردّ فعل على الخرق الإسرائيلي، لكنّها لا تنكر أنّ الطرفين مقتنعان ضمنيّاً بأهميّة «الخط الأزرق»، ووجوب احترامه، واحترام قواعده، لِما يوفّره من إيجابيات ومردودات تعود بالفائدة على مصالحهما.
جَرت اتصالات أمميّة مع الجانب اللبناني شملت رئيس مجلس النواب نبيه بريّ، وقيادة «حزب الله» لتوضيح ما ذهب اليه الامين العام للحزب السيّد حسن نصرالله في قوله «إنّ قواعد الإشتباك لم تعد تعنينا»، وكان جواب «الحزب» انّ الموقف المعبّر عنه إنما جاء في سياق عام موجّه ضدّ إسرائيل وتهديداتها، واعتداءاتها بعدما خرقت الخط الأزرق، وقصفت القرار 1701، وأوقعت إصابة قاتلة في صفوف «اليونيفيل».
والترجمة العمليّة لهذا الموقف أنه في حال استمرت إسرائيل وتمادت في خرق قواعد الإشتباك، فإنّ الحزب لن يبقى مكتوفاً، وقد كان واضحاً عندما أعلن: «اننا سنردّ أينما كان، وكيفما كان، وفي أيّ وقت كان»، مع التشديد على أنه لم يقل «سنبادر»، بل «سنردّ»، وهذا يُغني عن أيّ شرح.
أمّا برّي، وفق ما تؤكد أوساطه، فإنه في الموقع المتقدم المدافع عن القرار 1701، والمطالب بتحصينه وتفعيله، وحمايته بما يكفي من الضمانات الدوليّة المتطابقة ومعايير السيادة اللبنانية، «لأنّ قواعد الإشتباك في الجنوب قد وفّرت أمناً واستقراراً وازدهاراً، وأفسحت المجال أمام تغيير واسع طرأ على الحياة الإجتماعيّة، وحرّرها من عزلتها وتقوقعها، وأضفى عليها نهضة ثقافية، واقتصاديّة، ومعيشيّة، ناهيك عن المصاهرات، والنشاطات الأخرى من مدارس، الى مراكز تدريب النساء على الحرف اليدويّة، الى حملات التوعية، الى المستشفيات الميدانيّة وحملات التلقيح ضدّ الأمراض المعديّة، الى تدريب المزارعين على الأساليب الزراعيّة الحديثة، ناهيك عن شتى المظاهر الإنمائيّة الأخرى».
جواب الإسرائيلي كان مُلتبساً، شأنه في ذلك شأن موقفه الرسمي من القرار 1701 غداة صدوره عن مجلس الأمن في آب 2006. لا أحد في الأمم المتحدة يخفي نيّات إسرائيل العدوانية ضد لبنان وثروته المائيّة، لكنّ الوقائع الميدانيّة فرضت على حكومتها توخّي الحذر قبل الإقدام على أي خطوة ما لم تكن مدروسة سلفاً، ومن جوانبها كافة، ذلك أنّ المحاولات السابقة قد تحوّلت مغامرات مُكلفة دفعت بالمجتمع الإسرائيلي الى المحاسبة والإعتراض، ورفع الصوت ضدّ سياسة الغطرسة المعتمدة على فائض القوّة.
وما توافر للأمم المتحدة، أنّ الجواب الإسرائيلي الأخير يفرّق ما بين المبدئي والسياسي. مبدئيّاً إنها مع القرار 1701 الذي وفّر الأمن والاستقرار والبحبوحة الإقتصادية لمستعمراتها الشمالية مع لبنان. سياسيّاً، إنّ القرار 1701 قد أدخله رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بنداً حيوياً مثيراً في معركته الإنتخابية حيث يغزل على نوله كثيراً من المواقف الشعبويّة لاستدرار عطف الناخب الإسرائيلي، وكسب صوته في صندوق الإقتراع في آذار المقبل. وبالتالي، لا بدّ من التمييز والفصل بين الموقفين.
في الخلاصة، إنّ القرار 1701 باق، وبألف خير، وأيضاً قواعد الإشتباك، ومَن يعدّلها هو المجتمع الدولي داخل مجلس الأمن، ومَن يُهدّد بالخروج عليها سيدفع الثمن باهظاً. هناك سقوف يجب احترامها، ومَن يخرج عليها يدفع الثمن.